فهمي هويدي

الآن أستطيع أن أقول laquo;مصر أولاraquo; بعدما ظللت طوال السنوات السابقة أعارض ذلك الشعار وأتشكك في مقاصده، إذ لم يكن سرا أن الذين رفعوه آنذاك كانوا يتحدثون عن مصر المتحالفة مع إسرائيل، والخاضعة لتوجهات السياسة الأمريكية، والمتنكرة للتاريخ والمخاصمة لعروبتها. مصر المنكفئة على ذاتها وغير المبالية بمقتضيات أمنها القومي (حتى ملف مياه النيل لم تكن مكترثة به). مصر التي صغر حجمها وتراجع دورها حتى تحولت إلى عزبة للسلطان وأعوانه، فأذلوها ونهبوها وقرروا أن يتوارثوها لأنجالهم وسلالاتهم.
بعد ثورة 25 يناير اختلف الوضع جذريا، فالمصريون استردوا وطنهم من خاطفيه، وتخلصوا من رأس النظام الذي أهانهم واستباح كبرياءهم، ولا يزالون يناضلون من أجل اقتلاع جسم النظام بعد الإطاحة برأسه. وكانت تلك إشارة إلى أن هذا البلد الكبير بدا خطواته الأولى نحو استرداد عافيته، ومعها هيبته وكرامته، ورغم أنها خطوات أولى، إلا أنها كانت إعلانا عن أن مصر وضعت أقدامها على الطريق الصحيح، وتلك الإشارة وحدها أحدثت أصداءها المدوية في أرجاء العالم العربي، كما أنها كانت لها أصداؤها المحزنة والمفزعة في إسرائيل بوجه أخص.
لقد كنت أحد القائلين بأن مصر ليست قطر أو دولة، ولكنها أمة، بمعنى أنها إذا صحت صح الجد العربي كله، وإذا اعتلت شاع الوهن وتمكنت العلل في الجسد العربي كله ذلك قدرها وهو حكم التاريخ وأمر الجغرافيا. وهو ما أدركه الإسرائيليون جيدا حين وقعوا اتفاقية كامب ديفيد مع مصر وردوا لها سيناء أو الجزء الأكبر منها، وكانوا مستعدين لكي يفعلوا أى شىء لإخراجها من الصف العربي وعقد اتفاق سلام معها. وحين حدث ذلك فإنهم ضمنوا أن الدول العربية لن تقوم لها قائمة، وصار بوسعهم أن يعربدوا وأن يتفرغوا لتصفية القضية الفلسطينية على مهل. وذلك ما حدث، صحيح أن حزب الله تحدى الإسرائيليين في عام 2006، إلا أن إنجازه يحسب للمجتمع وليس للدولة اللبنانية.
الإسرائيليون يعرفون جيدا أن يقظة مصر واستردادها لكرامتها، لن يعني فقط النهوض بالبلد واسترداد عافيته، ولكنه يعني أيضا بالضرورة يقظة الأمة العربية كلها. لذلك قلت إن الثورة التى ارتبطت بتاريخ 25 يناير لم تكن ميلادا جديدا لمصر فحسب، ولكنها بمثابة ميلاد جديد للعرب أجمعين. وإذ لا ينكر في هذا الصدد دور الشرارة التي أطلقها التونسيون بثورتهم الرائعة التي أطاحت بنظام بن على، إلا أنه ما كان لتلك الشرارة أن تتحول إلى إعصار يؤجج الثورة ضد الظلم في أرجاء الأمة العربية إلا بعد أن انفجرت ثورة المصريين وأعادت الحياة إلى قلب الأمة العربية، فترددت أصداؤها ما بين الجزائر واليمن.
إن الثورة المصرية اعتبرت كارثة بالنسبة للقيادة الإسرائيلية، بمجرد أنها أسقطت النظام القائم وأجبرت رئيسه على التنحي، ومن يتابع تعليقات الصحف الإسرائيلية وتصريحات المسؤولين هناك يلاحظ ثلاثة أمور: الأول أنهم يدركون أن العالم العربي بعد 25 يناير سيكون مختلفا عنه قبل ذلك التاريخ، ولذلك يتوقعون أن يشهد العام الحالي متغيرات جذرية في المنطقة. الثاني أنهم بدأوا يعيدون النظر في استراتيجيتهم الحربية، وهو ما أعلنه رئيس الأركان الجديد بينى غانتس في خطاب تعيينه قبل أيام. حين قال إن الملف المصرى سيكون على رأس أولويات الاستراتيجية الجديدة، بما يقتضي إدخال تعديلات على خطة السنوات الخمس القادمة (2012 ــ 2017).
الأمر الثالث أن خطة إسرائيل للهجوم على إيران سوف تتأجل، لأن إتمام ذلك الهجوم كان يتطلب وجود حليف laquo;متعاونraquo; مثل الرئيس السابق يقمع ويهدئ من غضب العالم العربي، ويمنعه. وفي غيابه لم يعد هناك مجال للقيام بذلك الهجوم. وهو ما قاله ألوف بن أحد أبرز معلقي صحيفة هاآرتس.
ذلك حدث وكل ما فعلته مصر حتى الآن أنها فقط استيقظت من سباتها وفتحت أعينها، فما بالك بها حين تصبح دولة ديمقراطية حقيقية تملك قرارها وتدافع عن كبريائها. وهذه هي الخلفية التي تسوغ لنا الآن أن نرفع شعار مصر أولا، لأننا على ثقة أنها إذا نهضت واستعادت حيويتها ودورها فإن ذلك سيكون إيذانا بنهوض الأمة العربية بأسرها، وإعلانا عن عودة العرب إلى التاريخ بعدما هجروه وانفصلوا عنه.