ممدوح طه

بدو أن الصورة التاريخية التي فاقت أكثر الصور الإنسانية خيالا وإبهارا، والتي التقطتها كل عيون العالم للشعب المصري الفرحان تحت رايته المنصورة، في المشهد الختامي لـlaquo;ميدان التحريرraquo;، ستظل في ذاكرة شعوب العالم دليلا على إرادة وحضارة وكرامة هذا الشعب..

فما بين الخامس والعشرين من يناير الماضي والحادي عشر من فبراير الحالي، وخلال ثمانية عشر يوما فقط، صنع الشعب المصري بشبابه وشيوخه، وبنسائه ورجاله، وبكل أطيافه وأجياله، وفي طليعته هذا الجيل الرائع من شعب مصر العربي بإرادته الحرة، ملحمة تاريخية تفوق أكثر الأحلام روعة وخيالا، محققا على أرض الواقع على امتداد الوطن المصري أعظم ثورة شعبية في التاريخ المصري. وربما سوف نظل لأيام وربما لأعوام طويلة قادمة، نستخلص الدروس والعبر لنتائج الصراع الأبدي بين الخير والشر، ونقرأ في الكثير من الصور والمشاهد الرائعة التي سجلت تلك الملحمة الأسطورية الرائعة، لانتصار الإرادة الشعبية للشعب العربي في تونس التي بشرت بالثورة الشعبية، وفي مصر وفي طليعتها هذا الجيل الجديد لمصر الجديدة الذي جاء في موعده مع القدر.

ولم يكن الشعب المصري وحده هو الذي يشعر بالفرحة ويحتفل بالنصر، بعد انتصار إرادته الحرة ونجاح ثورته البيضاء، التي بدأها شباب من هذا الجيل الرائع في عالم افتراضي، وجسدتها معه كل الأجيال والأطياف حركة تتسارع وتتسع، وتفعل فعلها البناء على الأرض تحقيقا لحلم التغيير، بل كان الشعب العربي كله من المحيط إلى الخليج يفرح لفرحه ويحتفل معه بانتصار إرادته.

حينما توقفت عقارب الساعة في تلك اللحظات التاريخية الفاصلة بين الخوف والأمل، الظلم والعدل، والقهر والحرية، والظلام والنور، وبالتحديد بعد أن فرغ المصريون من صلاة المغرب في laquo;جمعة الخلاصraquo; التي كانت تتويجا لـlaquo;جمعة الغضبraquo; وlaquo;جمعة الرحيلraquo;، طلبا للحق والعدل والحرية والكرامة الإنسانية.. وعندما كانت أبصار العالم كله بشعوبه وقادته، وبساسته وإعلامييه، شاخصة بعيونها على شاشات التلفزيون ترقب ذلك الميدان الكبير الغاص بطوفان بشري مليوني لم تشهد له مصر مثيلا، لا في نبل أهدافه ولا في شرف سلوكه الحضاري، ولا في إصراره على الفيضان منذ انطلاقته الثورية في الخامس والعشرين من يناير، وحتى لحظة الحسم برحيل الفرعون.

هذه المشاركة الشعبية العربية لذلك المشهد التاريخي لنموذج الشعب المصري في laquo;ميدان التحريرraquo;، تجسدت في مشاهد شعبية رائعة في بيروت ودمشق، وغزة ورام الله، وبغداد وعمان، والجزائر والسودان، والمغرب وموريتانيا والخرطوم وصنعاء، والعديد من المدن العربية، تجاوبا وجدانيا مع الفرحة الشعبية المصرية الفياضة في القاهرة والإسكندرية والسويس وبورسعيد والمنصورة والعريش ومطروح وأسيوط والمنيا وأسوان وسائر المدن المصرية. وينبع ذلك التوحد من سلامة القاعدة الثابتة في الوعي المصري والعربي، والقائلة laquo;مصر بخير.. العرب بخيرraquo;، أي إذا سلمت مصر سلم الوطن العربي، وإذا مرضت مصر مرض الوطن العربي، والعكس أيضا صحيح.. لأن الشعب العربي في الواقع شعب واحد، والألم والأمل العربي في الضمير والوجدان واحد.. والمستقبل والمصير العربي في الوعي الشعبي واحد. وعندما أكدت مصر منذ انطلاق ثورتها التاريخية في ‬23 يوليو عام ‬1952، الهوية العربية للشعب المصري، انطلق هذا الشعب يدافع عن قضاياه الوطنية في الحق والعدل والحرية، مثلما انطلق بنفس القوة يدافع عن قضاياه القومية وفي مقدمتها القضية الفسطينية. فحمل هذا الشعب قضايا أمته العربية في ضميره ووجدانه، وانتقل بقلبه وعقله إلى ساحة كل وطن عربي، يرفع مع أشقائه أعلام الحرية ويدفع معهم حركة النهضة العربية، انطلاقا من وعيه بأن الحرية العربية لا تتجزأ، ومن إيمانه العميق بوحدة الأمة العربية من المحيط إلى الخليج. ولهذا كان من الطبيعي أن ينتقل الشعب العربي بمشاعره، لا إلى ميدان التحرير في القاهرة فقط، بل إلى كل ميدان للتحرير في كل مدينة مصرية، فمصر هي مركز الثقل العربي الأكبر في معادلات القوى الاسترايجية في الشرق الأوسط.. ومصر عبر التاريخ كانت قلب وعقل ودرع أمتها العربية، وما يربط بين شعبها العربي وأشقائه على امتداد الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، بقي أقوى من كل محاولات الفصل والعزل والوقيعة من جانب القوى الاستعمارية في الخارج، والتيارات الانعزالية في الداخل. تلك الحقيقة الطبيعية والإنسانية، صدقت في مواقع تاريخية كثيرة، لكنها لم تظهر بجلاء ووضوح كما وضحت في السنوات والأيام الأخيرة، خصوصا في خضم ملحمة الثورة المصرية، وبها شهدت مصر ميلادها الجديد، واستعادت ذاتها وشخصيتها العربية والإسلامية، وعرفت مصر الجديدة طريقها إلى المستقبل، ونهض شعبها كشعب حر في عصر الشعوب.