علي النجار:لم تعد وسائل تنفيذ البوستر السياسي في الزمن العولمي كما كانت قبله. فقد تشعبت مراكز الإشعاع الفكري والسياسي لتمس كل شرائح الشعب عبر مسابر الانترنت.

واندس فضاء فايسبوك والتويتر الافتراضي في أكثر مسالك دهاليز مخططي الجرائم الإنسانية عتمة،ومنها السياسية المحلية والخارجية. وفتحت الملفات المستورة والمستترة، وافتضح المستور أو المحجوب منها.

سقط بن علي التونسي، وسقطت ومزقت الصور الجدارية المستوطنة جدران القاهرة وغيرها من مدن برّ مصر، ولم يعد (أسانج) وحده من يكشف المستور الذي فاحت رائحته الكريهة.


لا بد ومن أجل أن يكتمل للفعل التحريضي دوره الانقلابي أن تتوافر له أدوات تواصلية فاعلة. لا بد له أيضًا من بصمة فارقة، علامة دالة مميزة. لا يكتمل هذا الأمر لأي تجمع أو جمعية أو حزب سياسي أو حتى أي نشاط ثقافي، علمي، فني، رياضي، إلا برسم أو تصوير أو تصميم لعلاماته الدالة المختزلة، وبحدود تبيان وضوح أهدافها، التي ربما تتحول إلى نوع من البوسترات الدعائية أو التحريضية.

هذه العلامات الفارقة حالها حال كل منتج ثقافي فني، تخضع في تنفيذها إلى متغيرات وسائل تنفيذها ضمن مساحة الوسائط المستجدة والمتاحة. لقد اختلفت الآن هذه الوسائل عما قبل، وباتت السطوة لأدوات الكومبيوتر أكثر من وسائل التنفيذ اليدوية السابقة. وقد وفرت برمجيات التصميم والتنفيذ الرقمية للكومبيوتر مع أرشيفها الصوري الهائل مساحة مفتوحة وفي متنازل اليد لعمل كل ما يخطر في بال الفنان المنفذ.

ولم يقتصر الأمر في هذا المجال على الفنان وحده أيضًا. وما رأيناه من صور إعلامية وبوسترات افتراضية للانتفاضة المصرية الأخيرة (الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني) مثال على ذلك، فقد عمّت هذه الوسائط السريعة التنفيذ وباختزالية عالية في إبراز المشهد العام لأيام الانتفاضة وفرسانها اللذين لم يعودا مجهولين.

تشير البوسترات إلى أصل الحدث، وتتوزع مساحته نماذج واضحة، تنضوي ضمنها العديد من الإشارات الصورية والنصوص والعلامات الدالة، التي لا تتطلب جهدًا لاكتشافها أو قراءتها. ومن خلال مسح بسيط لمعظم صور البوسترات وشعارات التجمعات والجماعات التي جعلت الشارع المصري يثورمن أجل مطالب التغيير على الانترنت، فإننا نعثر على حوالي ستة نماذج تنضوي ضمن مساحتها الإعلانية الإعلامية الصورية.

ـ شعار حركة شباب السادس من إبريل، المتمثل في حركة الكف المضمومة بقوة، والتي تحيط بها دائرة حمراء، سواء كانت خطية أو مساحة ملونة. حركة الكف المضمومة أو صورتها ليست جديدة مطلقًا، بل هي رافقت نشأة البوستر السياسي في وقت السلم والحرب، وهي تدل على قوة التصميم تارة وعلى التهديد بالحسم تارة أخرى.

هي أيضًا رمز للاحتجاج على المظالم ودعوة إلى استرداد الحقوق بالقوة إذا اقتضى الأمر. لقد نفذ هذا الشعار (والبوستر الاحتجاجي في الوقت نفسه) بالأسلوب الشعبي الكرافيتي، ذلك لكونه عملاً احتجاجيًا شعبيًا، وثانيًا لسهولة استنساخه على الوسائط، ومنها الجدران. ولا ننسى أن هذه الحركة تأسست على أثر إضراب عام لعمال غزل المحلة في السادس من أبريل من عام ألفين وثمانية، ويعتقد أن هذا الشعار أو البوستر من حصيلة هذه الفعالية العمالية لذلك الوقت. وهو يتوافق وكل الحركات الاحتجاجية الجماهيرية ويحفز على ضم القبضات المشهرة للأعلى. لقد أضيفت
كلمات جديدة على هذا الملصق مثل (جمعة الغضب) و (25 يناير يوم الانتفاضة المصرية)، كما بالإمكان إضافة اية كلمات أو شعارات أخرى تنسجم والحدث إن لم يتم إضافتها فعلاً.

ـ بوسترات حملت شعار (25 يناير) سواء بنص مكتوب بخط أحمر عريض بالعربية أو بالانكليزية أو بنص مكتوب على العلم المصري أو العلمين التونسي والمصري وما في ذلك من دلالة واضحة إلى دور ثورة الياسمين التونسية في تفعيل الشارع المصري.

ويعتقد أن هذه البوسترات أيضًا صنعت بعجالة وفرتها التقنية الرقمية، ولكن بدون تعقيدات لمشهديه الصورة والتي من الممكن أن تتوافر لغالبية مستخدمي برنامج الفوتوشوب بأبسط أدواته.

مع ذلك فهناك أيضًا تقنيات عالية في تنفيذ بعضها الآخر، من مثل البوستر الذي يوظف وجه شاب مصري ضمن مساحة ألوان العلم، الذي دون عليه بالانكليزية (نعم نستطيع ذلك)، والمعنى لا يخفى على اللبيب. أو البوستر الصوري الآخر الذي يشكل من العلم قلبًا يضمه كفان متقاطعان يشكلان صورة القلب مضاعفة، وتفترش هذه الضمة عشب الأرض كتعبير عن صلة العلم كوطن بالقلب الإنساني وحاضنه الجغرافي.

بالتأكيد فأية إشارة رمزية مضافة سوف تؤدي بثًا تواصليًا مكثفًا، ما دامت مشغولة ضمن مساحة الأداء الإعلانية المختزلة والواضحة المعالم كلوحات الإشارات المرورية. ولتدل هذه البوسترات أخيرا على أن هذه الحركة ليست ملكًا لأحد، بل هي مشاعة للشعب المصري الذي ينضوي تحت خفقة علمه بحثًا عن نقاء أزمنة جديدة لأجياله الجديدة.

ـ بما أن هذه الانتفاضة هي بعض من حراك المساحة الرقمية الافتراضية، لا، بل هي إحدى ثمارها، فقد صنعت بوسترات أخرى ترمز إلى الدور التواصلي الحر لهذه الوسائل أو المسارب الإعلامية الفائقة السرعة والفاعلة ثقافيا وإداريًا وإجرائيًا على أثر قطع السلطة المصرية للانترنت في أيام الانتفاضة الأولى، في مسعى منها إلى حجب حقائقها وللتعتيم عليها عالميًا، ولقطع خطوط اتصالاتها الأهم وعزلها عن العالم.

وتناست هذه السلطة أن زمن الحجب ولى، ولم يعد مجديًا أصلاً في زمن البدائل الفضائية الأخرى. لقد حملت بعض هذه البوسترات علامة الـ quot;فايسبوكquot;، وقد احتل وسطها علامة منع المرور المروية إعلانًا للعالم بحجب هذه الوسيلة التواصلية الديمقراطية عن أناس مصر المعترضين على سياسات النظام سلميًا.

وفي بوسترات أخرى خارطة مصر وفي الوسط منها مربع أسود يحتوي على علامة المنع المرورية نفسهاالتي تخفي خلفها جهاز موبايل أو في آخر حمامة. وفي الجانب الآخر من الصورة السياسية التي تحاول إرباك الوقائع هذا البوستر الذي يدعو إلى (انترنت بدون فتنة) ردًا على فضاء الحرية وانحيازًا إلى الحاكم لا المحكوم. وهكذا هو هذا الفضاء السبراني مفتوح على كل الاحتمالات ومتاح للجميع.

ـ البوسترات الصورية (الفوتوغرافية). هي صور فقط، لكنها تعبر عن الحدث ـ الرأي وبوسائط صورية فوتوغرافية مباشرة وبأبسط التقنيات. لكنها من أنجح الوسائط التواصلية إذا ما اختيرت أو صنعت بعناية للتعبير عن جوهر الحدث وأصله.

من هذه الصور البوسترية التي تعتبر أنهاأدت غرضها التحريضي لهذه الانتفاضة صورة مزدوجة لحسني مبارك والبرادعي بالقياسات نفسها،ولكن باختلاف تعبيرات الوجوه، حيث يبدو مبارك في حالة عكرة، بينما البرادعي منبسط الأسارير.

الصورة الأخرى لسيدة مصرية بكمامة على فمها، مدون في وسطها وبالخط العريض quot;كفايةquot;، وهي عبارة عن شعار حركة كفاية وفي أعلاها quot;الحركة المصرية من أجل التغييرquot;، وفي أسفلها quot;لا للتمديد.. لا للتوريثquot; وquot;حكمك باطلquot; وفي خلفية لقطة الصورة رجال بوليس وحواجز. وبوستر صوري آخر لفتاة معتمرة العلم المصري على رأسها، وباسطة كفها الذي دوّن عليه بالأسود وبالانكليزية quot;إذهبquot;.

ـ لجماعة الشهيد الشاب خالد سعيد بوستراتها الخاصة، سواء منها الصورية أو المرسومة أو المصممة. البوستر الصورة الناطق بالفاجعة، يحتوي على صورتين متجاورتين للشهيد. يبدو في إحداهاعندما كان شابًا وسيمًا وطريًا، وفي الثانية وجهًا شوهّه التعذيب، وكأنه تعرض لزلزال.

في البوستر الثاني خالد الشاب، وشريط الحداد الأسود المائل، ودوّن على هذا البوستر quot;رحمة عليك يا أخ خالدquot;، وكما يبدو فهو تعزية من رفاقه الشباب. وبوستر مرسوم آخر، يبدو فيه خالد، وهو يرفع بقبضته حسني مبارك، كما يرفع القرقوز، دوّن على هذا البوستر بالانكليزية (25 يناير). كما صنعت بوسترات أخرى عدةلخالد مع العديد من المدونات أو الشعارات الخاصة بالانتفاضة وأرقام هواتفها الخاصة.

لقد تحول هذا الرمز الوطنياللا منتمي إلى أية مرجعية حزبية إلا إلى وطنه إلى مساحة افتراضية احتجاجية كان لها دور بارز في إشعال الانتفاضة.

ـ أخيرًا فقد أفرزت هذه الانتفاضة مساحة واسعة من حرية التعبير عبر وسائل التعبير المتعددة، ومنها هذه المساحة الإعلامية الصورية المرسومة والمطبوعة، لقد انتظم ضمنها العديد من البوسترات بتقنيات مختلفة، واشترك أكثر من فنان محترف وغير محترف في ذلك، ليعبّروا عن رأيهم، أو ليحرضوا أنصارهم والآخرين ليقفوا إلى جانب قضيتهم.

من هؤلاء الفنان العراقي المغترب مظهر أحمد، الذي عودنا على مساهماته في التعبير عن القضايا الإنسانية الملحة. هو الآخر استخدم الانترنت ليوصل رسالته التي نفذها على شكل بوستر معبّر ومختزل، والذي يتمثل في رسم لقفل مكسور يحتل مساحة كبيرة من فضاء الورقة البيضاء، ويحمل علامته (خارطة الوطن العربي)، وبعنوان الانتفاضة بالعربية، وبالانكليزية في ثقب القفل.

بوسترات أخرى مرسومة بوجوه صارخة أو كفوف ملطخة بالدماء والعديد من الرسوم الكاريكاتورية الفاضحة لسوء استعمال السلطة ورموزها، ونأمل أن لا تقتصر المساهمة على الإنسان والفنان المصري، بل أن تعدى المساهمة إلى بقية الفنانين والإعلاميين العرب ما دام الأمر يحمل في طياته تغييرًا للسلوك السياسي الاجتماعي المنفتح على الفضاءات الأكثر حرية والأنظف أدبيًا. ويمتلك كل منا إرادته الحرة غير الخاضعة للزيف والتدجين.

(*) ـ كتبت المقالة في اليوم السابع من هذا الشهر، وبعدما أسفرت عنه هذه الانتفاضة والشعب بطلها بما هيئته لها وسائل الاتصالات الجديدة وأدواتها المعلوماتية السائلة الفائقة النفاذ لكل زوايا وحارات مصر والعالم وعمالها المجهولين والمعلومين. فليكن انفتاحنا على هذه الوسائل وتقنياتها هو طريقنا لمستقبل أكثر حميمة وعدلاً. وتهنئة لمن حرر من ساحة التحرير. ودعوة إلى الفنانين العرب للاحتفال بهذا النصر الإنساني الكبير من خلال أعمالهم، فليست كل الأيام متشابهة.
مالمو