حميد مشهداني من برشلونة: قبل البدء في الحديث عن هذا الفيلم، أود التذكير إلى أهمية معاصرة موضوعه في يومنا هذا، ولدينا مثال واضح على ذالك الآن، السيد ldquo;بيرلوسكونيrdquo; حل العديد من مشاكله القضائية، ومعضلاته الأخلاقية في وصوله الى السلطة ldquo;بشكل ديمقراطيrdquo; وهو الآن سيد الإعلام في كل ايطاليا، وعلى رأس السلطة السياسية.
هذا كان طموح السيد ldquo;جارلس كينrdquo; الذي كان مالكا للعديد من الصناعات المهمة، ومعظم الصحف ووسائل الإعلام، الفرق هنا هو انه فشل في الوصول إلى السلطة السياسية، التي كانت قمة أحلامه. المثال الآخر هو السيد ldquo;موردوخrdquo; إمبراطور الإعلام في العالم، ولكن هذا أكثر ذكاء من الاثنين، لأنه استطاع أن يضع الساسة والسياسيين في راحة يده، كما بيادق الشطرنج.
الشاب ldquo;أورسون ويلزrdquo; وفي الخامسة والعشرين من عمره، و بعد مروره بتجارب مسرحية وإذاعية كان لها صدى تأريخي، ففي المسرح أهتم بتقديم معظم أعمال ldquo;شكسبيرrdquo; الكلاسيكية وفي الإذاعة يذكر برنامجه المشهور والمقتبس من رواية ldquo;اج، جي، ويلزrdquo; والذي أثار الرعب في قلوب المستمعين حينما أعلن غزو الأرض من ldquo;المريخيينrdquo; بمؤثرات صوتية مخيفة يقدم أول أفلامه الطويلة ldquo;المواطن كينrdquo; 1941 هذه السنة تمر الذكرى السبعون لعرض هذا الفيلم التاريخي.
العديد من مؤرخي السينما يعتبرونه فيلم كل العصور، ويمثل الحد الفاصل بين القديم والحديث في صناعة السينما، وكما تتحدث قصة الشريط عن مرور الزمن، صار هذا الزمن ليعطيه قيمة لا تضاهى كما الخمر المعتق يتحسن بمرور السنين ليصبح الآن ldquo;ماستر بيسrdquo; الأفلام، ليتحول إلى مادة دراسة لكل المهتمين في شؤون السينما، ومنذ منتصف الخمسينات إلى يومنا هذا كان على رأس قائمة أحسن الأفلام في التاريخ، فكما هو معروف، بين فترة و أخرى يعاد تقييم
الأفلام من قبل النقاد والمؤرخين، ويذكر أن في عام 1952 كان فيلم ldquo;سارق الدراجةrdquo; على رأس القائمة، ليأتي ldquo;المواطن كينrdquo; بعد سنوات قليلة كي يحتل مقدمتها.
المخرج ldquo;أورسون ويلزrdquo; 1915_1985، أخرج، وكتب السيناريو، وأنتج، وقام ببطولة هذا الفيلم الفريد، وذالك بعد انبهار مديري ldquo;ر.ك.اوrdquo; بعبقريته، ودقته في الأداء الفني على كل المستويات مما جعلها استقدامه من ldquo;نيويوركrdquo; الى ldquo;هوليوودrdquo; بعقد مذهل كان موضوع حسد العديد من المخرجين المعروفين، فالشركة منحته الحرية الكاملة في العمل، وميزانية مفتوحة، كما منحته جناحا هائلا ومغلق للتصوير، وهذا لم يكن طبيعيا حينذاك، فجاء بمعظم أعضاء فرقة ldquo;ميركوريrdquo; المسرحية التي كان قد أسسها ldquo;ويلزrdquo; في عام 1937 والتي تجولت معظم الولايات الأميركية مقدمة أعمال ldquo;ويليام شكسبيرrdquo; الكلاسيكية التي تخصصت فيها.
ما ذكرته أعلاه، حول كون هذا الفيلم يعتبر نقطة فصل بين القديم والحديث بكمن في السيناريو المعقد جدا، والذي كتبه بالتعاون مع المخرج ldquo;مانكويزrdquo; رغم أن هذا الأخير لم يبد نفس الاهتمام والحماس في مونتاج وتركيب الفيلم كما ldquo;ويلزrdquo; حسب قول ldquo;روبرت وايزrdquo; مدير المونتاج آنذاك في مقابلة تليفزيونية بعد عقود من عرضه، فمعظم المشاهد في هذا الفيلم كانت نوعا من ldquo;الفلاش باكrdquo; المتواصل و أيضا معقد وغريب في نفس الوقت، تعتمد على سرد رفاق ldquo;جارلس كينrdquo; ومن عرفوه منذ نعومة أظفاره، من تألقه الساحر إلى التدهور العقلي الذي أصابه حتى موته، وكل واحد منهم يشرح انطباعه عن هذا الرجل المتناقض الأخلاق، والأطباع ليضع هذا كله مصهورا في وحدة سينمائية كاملة، تثير الدهشة في براعتها ودقتها، وقبل الحديث عن العناصر الأخرى في الإبداع نرى الطفل ldquo;كينrdquo; في السادسة من عمره وهو يشبه ويلز الى حد كبير، كي نراه يشيخ بمرور السنوات، فشكل الممثل في تغير مستمر الى يوم وفاته في عمر يقارب السبعين، وهنا استخدم ldquo;المكياجrdquo; ليعطي هذا الانطباع، اذا أخذنا بنظر الاعتبار محدودية الإمكانيات في تلك الفترة، حيث كان عمر ldquo;ويلزrdquo; 25 سنة.
اما تصوير ldquo;غريغ تولاندrdquo; والذي كان تحت أشراف المخرج المباشر كان يعني ثورة في فن التصوير السينمائي في استخدامه مؤثرات ضوئية حيل سينمائية في الإنارة لم يقم بها أحد حتى ذالك الحين، فهنا طبق ما يسمى بrdquo;عمق المنظرrdquo; بحيل تشكيلية كان منها يحاول أبراز بطل كل لقطة في دوره حسب إرادة المخرج، مستخدما ldquo;الكونتراستrdquo; الضوئي بين الأسود والأبيض بشكل رائع، فهو كما أشرف على التركيب حسب قول ldquo;وايزrdquo; الى حد اللعنة، كان التصوير بالنسبة له هوسا اخر، فهو كان يصور العديد من اللقطات لمشهد واحد، وهذا ما كان يثير غيض الشاب ldquo;روبرت وايزrdquo; أثناء التركيب، وكان يكرر جملة للمصور وهي ldquo;لا راحة للكاميرا السينمائيةrdquo; مما اتعب ldquo;غريغ تولاندrdquo; قليلا، لان ldquo;ويلزrdquo; طور استخدام الرافعات والمصاعد ليبرز الانحناء البصري الصعب التصوير في بعض اللقطات، لان كل ldquo;كادرrdquo; في إنشاء الفيلم كان له معنى في ذهنه، رغم ان هذا لم يكن اكتشافا بالنسبة إلى rdquo;ويلزrdquo; ولكنني أعني انه طور ldquo;خداعrdquo; الكاميرا مستخدما الانارة في هذا الفيلم الى أقصى الدرجات، خصوصا في ضلال الشخصيات، واستفاد من هذا التكنيك في ldquo;ماكبيثrdquo; 1948 وفي افلام أخرى.
حكاية الفيلم، هي حقيقية مصدرها استوحي من حياة إمبراطور الصحافة المعروف حينذاك ldquo;ويليام راندولف هيرستrdquo; وهنا يكمن ذكاء ldquo;ويلزrdquo; عارفا سطوة هذا الرجل وثروته، وتأثيره، ففي عقده مع الشركة أحد شروطه الرئيسية كان التصوير بشكل سري، وفي غاية الكتمان، لانه كان يعرف ان ldquo;هيرسيتrdquo; سيعرقل التصوير والإنتاج إذا عرف هذا، وldquo;اورسون ويلزrdquo; كان على حق، سأعود إلى هذا الموضوع لاحقا.
تبدأ القصة في كوخ صغير بجانب منجم متروك، والثلج يتساقط ببهاء أبيض جميل، والطفل ldquo;جارلسrdquo; يتزحلق على الجليد سعيدا في أداة التزلج الخشبية بينما كان ldquo;البنكrdquo; يصادر الأملاك البسيطة لعائلته مقابل تمتع الطفل بتربية خاصة ومميزة تحت أشراف هذا البنك، وحينما يعرف هذا يستشيط الطفل ldquo;كينrdquo; غضبا فيضرب السيد ldquo;تاثشرrdquo; ممثل البنك بلعبة التزحلق الخشبية تلك، ولكنه في النهاية يوافق على مضض تغيير موقع سعادته وحلمه، ويحتفظ بذكرى الكوخ وتساقط الثلج الناعم، ليلقى الى عالم الثراء حيث يبدأ البحث عن السعادة المعقولة، فالطفل ldquo;جارلسrdquo; حينما يجبر على مغادرة عالمه السعيد و الفقير، والمحدود، ولعبته الوحيدة وحب والديه ومصادرة الأملاك التي لا قيمة لها، السعادة كانت كل ما يحيط به رغم بساطتها، فهي لا تعني الثراء أو الفقر في ذهن الطفل، وهنا ممكن ان نتحدث عن سر الفيلم، وهي الكلمة الاخيرة التي ينطقها ldquo;كينrdquo; شيخا قبل وفاته بلحظة والتي حيرت المحققين والصحفيين، rdquo;روزبدrdquo; كانت الكلمة، وهؤلاء أخذوا على عاتقهم البحث عن معنى هذه الكلمة، التي ربما كانت تكملة لحلم طفولته، rdquo;روزبدrdquo; هي بداية ونهاية الفيلم، وهي رمز الطفولة الضائعة في دفء العيش العائلي السعيد الذي فقده حينما وجد نفسه و بشكل مفاجئ في أحضان الترف والثراء.
كان ldquo;أورسون ويلزrdquo; يعتبر متقدما على زملائه في المدرسة، فهو منذ صغره، ومشاكل عائلته، و وفاة والدته وهو في الخامسة من عمره، ثم موت والده قبل بلوغه الخامسة عشر، أبدى ذكاءا في كل ما يلمسه، و له عبقرية خارقة جعلت منه ممثلا مشهورا قبل بلوغه العشرين، وقام ببطولة العديد من مسرحيات ldquo;شيكسبيرrdquo; ضمن نشاطات فرقته المسرحية ldquo;ميركوريrdquo; التي كان قد أسسها في ثلاثينيات القرن الماضي، بعد عقده مع الشركة السينمائية جلب معظم أعضاء هذه الفرقة للعمل معه في أول أفلامه، مثل ldquo;جوزيف كوتنrdquo; الذي رافقه في العديد من افلامه اللاحقة و ldquo;ايفيريت سلوانrdquo; الذي أدى دورا تأريخيا في فيلم ldquo;وبلزrdquo; سيدة من شنغهاي أو ldquo;شرخ في المراةrdquo; 1947 وممثلين اخرين لا تحضرني أسماؤهم.
ولكن ldquo;ويلزrdquo;قبل هذا الفيلم أكتسب شهرة لا حدود لها أثناء عمله الاذاعي، خصوصا في تبنيه أذاعيا رواية ldquo;اج. جي. ويلزrdquo; حروب الكون، حيث بصوته الرامي المرعب أعلن غزو المريخ للارض، مما جعل ملايين الاميركيين الاختباء في الملاجئ بعد افراغ معظم مخازن بيع المواد الغذائية، وهذا اطلق شهرته بسرعة البرق، وهو لم يخترع تأثير وسائل الاعلام في السلوك الاجتماعي. ولكن بعد هذا الحدث الإذاعي الشهير، أستخدم فكرته بذكاء عجيب في تنفيذ اول أفلامه الطويلة في عمر الخامسة والعشرين.
ربما هذا الفيلم يثير الضجر عند مشاهدي وهواة السينما في يومنا هذا، خصوصا بعد تطور هذه الصناعة بشكل مذهل خلال العقود الأخيرة، ولكنه في حينه كان فاصلا حاسما في هذه المهنة، فذكاء الشاب ldquo;أورسون ويلزrdquo; فاق كل ما كان متوقع من مبتدئ في السينما ldquo;أماتيرrdquo; فهو اولا، وبعقد مصفح أشترط على شركة ldquo;ر. ك. اوrdquo; عدم تدخل اي مدير أو مسؤول في عمله، و أشترط أيضا السرية التامة إلى حد انتهائه لان قضية الفيلم كانت مستلهمة بطريقة او بأخرى من حياة سيد الصحافة والاعلام والمليونير آنذاك ldquo;ويليام راندولف هيرستrdquo; الذي بدوره أكتشف ما كان يحيكه ldquo;ويلزrdquo; وحاول يكل الوسائل منع عرضه، وانتهى ان يقترح على الشركة شراء الفيلم وحرقه بعد دفع كل تكاليف صناعته ضعفا، و انتهى الأمر الى فضيحة إعلامية كبيرة أنشغلت فيها الصحافة لفترة طويلة، و كما هو موضوع الفيلم، وبتأثير من المليونير ldquo;هيرستrdquo; رفض عرض الفيلم في العديد من دور السينما الرئيسية لينتهي عرضه في واحدة ثانوية، وبسبب الضجة الإعلامية، وبعد اعجاب المشاهدين والنقاد عادت كل دور السينما في أميركا الى عرضه. وهنا تمتزج عناصر عديدة وكلها تخص شخصية ldquo;اورسون ويلزrdquo; نفسه، وتأريخه القصير في هذا المجال، وتماثل حياته مع شخصية ldquo;جارلس كينldquo; ثم تأثير وسائل الإعلام على المجتمع الذي كان جربه أثناء عمله الإذاعي، وهو الفتى الشاب الذي عاقدته شركة سينمائية كبرى، ووافقت على كل شروطه، وأطلقت له الحرية الكاملة في صنع الفيلم كما منحته ميزانية لا حدود لها، و أيضا اختيار فريق العمل من ممثلين، وتكنيكيين، ومحترفين.
أعود الى قصة الفيلم مرة أخرى، فالشاب ldquo;كينrdquo; الثري يدرس في أهم الجامعات ويتخرج منها بدرجات امتياز ليخوض عالم الأعمال وينجح فيها بسهولة ويصير ميليونيرا ليبدأ تأثيره في الرأي العام والسياسة، وينتهي مالكا لأكبر إمبراطورية صحافية في كل الولايات المتحدة، الى ان يداعبه حلم الفوز بالسلطة السياسية وهو الذي كان قد فاز بكل ما كان يطمح، فيدخل معمعانها، ويرشح نفسه حاكما للولاية، وهنا يصطدم ldquo;كينrdquo; بصخرة ldquo;المؤسسةrdquo; العتيدة، اي النظام، ومحترفي السياسة، الذين ألغموا دربه في الفضائح، الحقيقية والكاذبة منها، ويعي هذا ليعود إلى غروره في الخلق والإنشاء، ويحاول ان يجعل من زوجته الثالثة هاوية الغناء الأوبرا سيدة هذا الفن الشائك والصعب فيفشل في هذه المهمة أيضا، وهذه تهجره لتضيع في الحانات الرخيصة، ثم يتركوه أصدقائه الواحد بعد الآخر غير محتملين سطوته وغروره، ليبقى وحيدا، و يكتشف ان السياسة هي ليست أكثر من ldquo;لعبةrdquo; رديئة حتى في أعرق الديمقراطيات، وأن كل ثرواته وممتلكاته لا تساوي شيئا على الإطلاق، فهو حاول شراء الحب، و الصداقة ولكن بغرور الثري ولكنه فشل أيضا، كان يريد ان يصير ربا لمن يحيطون به، والفشل الذريع في كل هذه المحاولات جعله يكتشف أن رحلة الثراء الفاحش التي بدأها طفلا كانت فارغة من أي سعادة حقيقية، فيعاني الوجد والحزن في ذكرى سعادة طفولته، و يموت مكررا كلمة ldquo;روزبدrdquo; ومن يده تتدحرج كرة زجاجية تحتوي كوخا صغيرا يتساقط عليه الثلج لتنكسر فيما بعد، هذه نهاية الفيلم، ونهاية قصة ldquo;المواطن كينrdquo; ليعود في لحظاته الأخيرة الى جمال طفولته الضائعة، و لكن نهاية الفيلم الحقيقية كانت في حرق ممتلكاته الرخيصة، والتي لم تكن تعني شيئا لمنظمي المزاد العلني لبيع ثرواته، وفي المحرقة يلقي احد العمال تلك اللعبة الخشبية للتزلج على الجليد، ونرى كيف تنصهر الأصباغ فتظهر كلمة ldquo;روزبدrdquo; التي جهد المحققين، والصحفيين في كشف لغزها.
أخيرا، أود الإشارة إلى ذاكرة ldquo;تلفزيون بغدادrdquo; هذه المؤسسة الرائعة منذ الخمسينات والتي بذلت جهودا مستحيلة في الأداء الثقافي، والفني رغم التقلبات السياسية، وسلسلة الانقلابات العسكرية، والحروب، وسيطرة الجيش الدائمة عليه، كان يعرض على المشاهدين مرتين أو ثلاثة كل أسبوع أفلاما رائعة مثل هذا، رغم مزاحمة العديد من الأفلام المصرية الرديئة، أهدي هذا المقال لكل النساء والرجال الذين من عملوا في هذا الجهاز، وldquo;زاغلواrdquo; الرقابة العسكرية الشريرة.
التعليقات