الى quot;حلاق بغدادquot; صادق

حميد مشهداني من برشلونة: في بداية الستينات كنت تلميذا في ldquo;متوسطة الجعيفر الرسميةrdquo; في الصف الثاني، لم أبلغ حينها الرابعة عشر من عمري، وبين درس و فرصة، كنت اخرج الى الشرفة المطلة على الشارع العام، الذي يربط ldquo;علاوي الحلةrdquo; بـrdquo;الكاظميية شارع مزدحم بالسيارات والباصات ذات الطابقين، وrdquo;العربنجيةrdquo; ووسائط النقل القديمة بين المدينتين خصوصا تلك التي تنقل الركاب بسرعة مدهشة، وعبر دخانها، وضجيحها كنت أرى ldquo;صالون صادق للحلاقةrdquo; على الجانب الاخر من الشارع، وهذا كان جديدا وأنيقا، وفي ايام الجمعة كنت اقترب واجهته الزجاجية العريضة لأرى جدرانه مزينة بصور جميلة امعظم نجوم ldquo;هوليوودrdquo; نحن صغارا أعتدنا الحلاقة الشهرية في في دكان شعبي قريب من ldquo;حمامات الرحمانيةrdquo; العتيدة هذا المحل كان يديره رجل طيب ldquo;أسطة فنطلrdquo; وبأسعار رخيصة جدا 20 فلسا كل حلاقة، وأحيانا كنا نزاغل عليه هذا السعر البسيط، ولكن ldquo;صادق كان يقبض 40 فلسا بسبب حداثة اجهزته، والتبريد، والنظافة، ولكن الاهم من كل هذا كانت صور الممثلين، وبعض ldquo;شيتاتrdquo; أفلام تأريخية وكلها امريكية،
صادق الحلاق كان رجلا غامضا، غليظ الجسم، و وجه مدور كما كرة قدم تتوسطه عينان جاحظتان كثيرا ما كانت تقفز من مداراتها،لتستقر مبحلقة في وجه الزبون مما كان يثير الخوف أحيانا خصوصا . حينما تراه هكذا وبيده موسى حلاقة حادة جدا، هذا كان ldquo;مرجعاrdquo;في السينما الامريكية بالخصوص، وكان قد شاهد وحضر العروض الاولى لمعظم الافلام في دور سينمات بغداد الكثيرة حينذاك، منذ الاربعينات ويحفظ عن ظهر قلب، القصة، والممثلين، والمخرجين، وكتاب السيناريو، والموسيقى التصويرية لكل فيلم بذاكرة خارق.
المرة الاولى التي زرت فيها ldquo;صالون صادقrdquo; لم أعتبر سعره غاليا، رغم انه كان يقبض ضعف ما يقبضه ldquo;أسطة فنطلrdquo; المحترم الذي لم أخطو دكانه منذ ذالك اليوم بسبب الصور الدينية التي كانت معلقة على جدران دكانه، مثل معركة الخندق، والائمة، وصور الامام علي في أوضاع مختلفة، ولوحات سيفه ldquo;ذو الفقارrdquo; في يمينه وفي اليسرى معلقا رأس ldquo;الشمرrdquo; المقطوع داميا، في الواقع كانت في معظمها صورا ولوحات كابوسية تثير الخوف في قلوبنا الصغيرة، على عكس ما كان موجودا في صالون ldquo;صادقrdquo; من اشارات الى السينما بين

صور وrdquo;شيتاتrdquo; أفلام، وكتب، ومجلات منتشرة في كل زوايا صالونه، وهو أيضا كان لا يتوقف الحديث عن أفلام جميلة كان فد شاهد عرضها الاول، وكان يقصها لزبائنه بشكل مثير،وأنا عرفت قصص العديد من الافلام قبل مشاهدتها، و يوما حكى لي بين مقص ومقص قصة فيلم ldquo;ليلة الصيادrdquo; وبطله المضل الذي كان ldquo;روبرت ميتشومrdquo; ولحد الان اتذكر كيف كان يترك ادوات الحلاقة ليقلد طريقة سير الممثل في الكثير من أفلامه، مائل الكتف، بطيئا متدلي الذراعين دون حركة حينما يمشي، وهذا لاحظته فعلا في أفلام عديدة قام ببطواتها هذا الممثل الرائع .
ليلة الصياد، 1955 كان الفيلم الوحيد الذي أخرجه الممثل العظيم rdquo;جارلس لوفتونrdquo; البريطاني، متبنيا سيناريو كان قد كتبه الناقد السينمائي المشهور ldquo;جيمس أجيrdquo; الذي بدوره استلهمه من رواية الكاتب ldquo;دافيد غروبrdquo; ورغم هذا اضطر المخرج الى إعادة كتابة السيناريو مرة اخرى
يبدأ الفيلم بلقطات سريعة، تعطي الانطباع الاول لابطال هذه القصة، فنرى الداعي الديني،القس ldquo;روبرت ميتشومrdquo; يناجي الرب بعد قتله الارملة السابعة فهو كان صياد أرامل، لينتهي في نفس زنزانة المتهم بسرقة 10000 دولار والمحكوم بالاعدام، ويعيد في نوع من ldquo;فلاش باكrdquo; سريع حادثة السطو والقتل، وكيف خبى هذا المبلغ المسروق في دمية ابنته الصغيرة ويطلب من اخيها ان يقسم على عدم البوح بهذا السر مهما كلف الامر، ليضعنا أمام أبطالها في حالة اجتماعية، و اقتصادية تعقدت فيها الاحلام والطموحات، والخوف من الفقر الوشيك، ليشير الى دور العقيدة الدينية المتعثرة في ازمات أخلاقية دورية كما هو حال ldquo;البورصةrdquo; التي تقيس كل يوم صحة النظام الرأسمالي، فبعد اطلاق سراح القس الفاسق يبدأ هذا رحلة صيد جديدة، نحو قرية اللص المعدوم، حالما العثور على المبلغ الذي لا أحد يعرف مخبئه غير الطفلين، وهنا تبدأ غنائية الفيلم الحزينة، في اشارات الى جمل وعبارات أنجيلية سرعان ما تجد صداها في مجتمع مسحوق بسبب الازمة الاقتصادية في بداية الثلاثينات، ليبدأ الصراع بين الخير والشر، كلمتين كان ldquo;الداعيrdquo;قد وشمهما على اصابع يديه، وبحيل، وخداع متدين يتمكن من أغراء أرملة اللص ldquo;شيلي ونترزrdquo;ليتزوجها بعد ذالك، وبعد محاولات عسيرة لاستدراجها أن تخبره شيئا عن المبلغ المسروق يقتنع انها لاتعلم بذالك فيقتلها و يلقي بجثتها في النهر، ليتجه بعد ذالك الى الاطفال محاولا نفس المهمة، وهنا هما اول ضحايا الجشع.
في أعتقادي ان ldquo;روبرت ميتشومrdquo; قام بأجمل أدوار حياته في هذا الفيلم ldquo;المستقلrdquo; لان فيه من الغرابة والسحر، والغنائية ترافقنا على طول منحدر نهر الميسيسبي في لحن حزين يشير الى مهد موسيقى ldquo;البلوزrdquo; على ضفافه، كما فيه الكثير من اللمسات ldquo;السورياليةrdquo; والكابوسية تلوي الاحشاء بمرارة، ويضعنا في حالة انتظار مدمرة مع نفاذ الصبر، حيث، الشر ldquo;الوحشrdquo; أو القس الذي يطارد برائة طفلين لا حول ولا قوة لهما .تمكنا الهروب من براثن الشيطان في ليلة مظلمة بزورق قديم ليتركوا مصيرهم في تيار هذا النهر ldquo;القدرrdquo; لينتهوا في ضفاف الخير منهكبن حيث يرسي زورقهم أمام منزل خيري تديره سيدة محترمة ldquo;ليليان غيشrdquo; لاعانة الايتام والاطفال الضائعين بعد ليالي مطاردة مرعبة من قبل الصياد ldquo;القسrdquo; الجشع .
الممثل العبقري ldquo;جارلس لوفتونrdquo; ذو التجربة الطويلة في العديد من الافلام الرائعة على مدى عقود صقل كل خبرته الفريدة في صناعة هذا الفيلم، فكما ذكرت سابقا طريقته في التقديم بتلك اللقطات السريعة التي لا تأخذ منه اكثر من بضعة دقائق، يقدم للمشاهد كل العناصر الرئيسية الضرورية لفهمه فيما بعد، لينطلق بعد ذالك هادئا، و مرعبا في نفس الوقت، طارحا معضلة الخير والشر الكامنة في قلوب البشر خصوصا في فترة الانتكاسة الاقتصادية - الاخلاقية، وتأثيرها في مجتمع ضعيف الارادة المتناقض الاخلاق،حيث الجشع، والتعصب الديني، والعنصري، ومهمة الدين في تربية رعاياه، هذا الدين الذي ترك المؤمنين بيد حفنة من المضاربين، والاحتكاريين اللاضمير يسكن ارواحهم. و أول ضحايا هذه الازمات هم الاطفال، كما هو الحال في ازمتنا الحالية، حيث تزداد حالات السطو والاحتيال، والابتزاز، فرجل الدين هذا، في زمن مضطرب يبدأ الصيد في المياه العكرة، والنصابين والمحتالين عادة ما يكونوا أبطالا قذرين في زمن قذر، فهو يتمكن من خداع اهل القرية بتدينه، ليغري بعدها أرملة اللص، ليقتلها، ليطارد أطفالها فيما بعد. وفي تصوير ldquo;ستانلي كورتيزrdquo; الليلي الدائم والغريب يضعنا المخرج في حالات رعب مستخدما فن الانارة والتناقض الضوئي حسب تكنيك تلك الفترة البسيط لنرى القس المحتال ldquo;بعبعاrdquo; يخيف نعاس الاطفال، وهنا يلجأ المخرج الى التراث التقليدي لقصص الاطفال,
يعرف عن ldquo;جارلس لوفتونrdquo;كممثل، دقته في الاداء فهو مثل العديد من معاصريه البريطانيين الذين فازوا احترام ldquo;هوليوودrdquo; كان خريج مسارح ldquo;لندنldquo; العريقة، فتجربته المسرحية الكلاسيكية الطويلة على خشبات مسرح هذه المدينة جعلته يهذب أداءه بطريقة مذهلة، وكثيرا ما كان يحتد نقاشه مع مخرجين مهمين حول تفاصيل أدواره كما حصل مع ldquo;الفريد هيتشكوكrdquo;و ldquo;ديفيد لينrdquo; وآخرين، لينتهي بفكرته وطرحه، فوضع كل هذه الخبرة السينمائية و المعرفة في أنجاز هذا الفيلم الذي لم يفز بأي جائزة، لم يحصل على غير سخط ldquo;النقاد؟rdquo; الرديئين الذين نسفوه بنقدهم الردئ والبائس، وضاع الفيلم، وغمر بشكل غير عادل ليعود بعد سنوات كي يصير ldquo;أيقونةrdquo; هواة ومحترفي صناعة السينما، فهو يعالج فترة اجتماعية، واقتصادية معقدة، اراد منها استخلاص ldquo;قدر الانسانrdquo; بطيبته، وقبحه، و براءته، في حالة فريدة، حيث الدين ومؤليه، يصيرون أدوات الشر .
هذا الفيلم يعتبر ldquo;كاملاrdquo;من جميع جوانب صناعة السينما، حسب مؤرخيها وبعض النقاد البارزين، حبكه ldquo;جارلس لوفتونrdquo;ببراعة لا تظاهى مع كاتب السيناريو ldquo;جيمس اجيrdquo; و أيضا مع الممثل ldquo;روبرت ميتشومrdquo; الذي قام بأداء تأريخي، وتعبيرية تخنق الانفاس، وهذ كان قد قام ببطولة عشرات الافلام الرائعة، ولكنني أعتقده في هذا الفيلم، أدى اجمل أدوار حياته الفنية .
اماrdquo;شيلي ونترزrdquo; أرملة اللص، وزوجة القس فيما بعد، تقوم بدورا غريبا فيه الكثير من ldquo;السورياليةrdquo; تذكرنا بأعمال المخرج الاسباني ldquo;لويس بونويلrdquo; في فتراته الاولى، فهي تمثل شخصية كررتها في معظم الافلام لاحقا، كأم أرملة متصابية، لاتشك في الزواج مع خطيب في سرعة قياسية بعد وفاة زوجها، دورا قامت به في العديد من المسلسلات التليفزيونية، لكي تقوم بعد سنوات بنفس الدور تقريبا في فيلم ldquo;لوليتاrdquo; الذي أخرجه ldquo;ستانلي كوبريكrdquo;.
أخيرا، فيلم رائع، وضروري جدا مشاهدته أكثر من مرة.