حميد مشهداني من برشلونة: هذه المرة، اكتب عن أكثر الأعمال السينمائية الايطالية شهرة على مستوى العالم، rdquo;سارق الدراجةrdquo; 1948 لرائد ldquo;الواقعية الجدبدةrdquo; -فيتوريو دي سيكا- يقال احيانا انه من أفكار بسيطة بنيت معظم الافلام العظيمة، وهذا واحدا يمثل الفكرة بكل أبعادها، مدينة ldquo;روماquot; التي دمرتها الحرب كانت تستيقظ من كابوسها الذي استمر سنوات عديدة، اذا حسبنا سنوات الفاشية ما قبل الحرب وأثنائها، مدينة جائعة، مزدحمة بجيش من العاطلين عن العمل، واللصوص، والمحتالين، وكلهم بطرق مختلفة، من الشريفة الى الانانية يجهدون في البحث عن لقمة العيش اليومي، فتختلط الادوار، وتظهر التناقضات الاخلاقية كما في كل حالات الحروب، وبعدها.
بطلنا في هذا الفيلم، هو عامل عاطل، يحصل، بشق الانفس، على وظيفة بسيطة في ضواحي ldquo;روماrdquo; ولكن بشرط ان يملك دراجة هوائية والتي في الواقع كان يملكها، ولكنها كانت مرهونة في واحد من دكاكين ldquo;الرهنrdquo; التي انتشرت انذاك بسبب جوع سابق، ولكي يسترد دراجته يضطر ان يرهن ldquo;شراشفrdquo; عرسه، هذه هنا الفكرة البسيطة، الوظيفة المتواضعة و واسطة النقل الرخيصة ldquo;دراجة هوائيةrdquo; الفيلم، قصة محزنة، فيها من الانفعال الدرامي، والشعري ما يثير في المشاهد نوعا من الاحباط المر، امام بوئس هذا الرجل أقتصاديا، بجانب سوء الحظ، فبعد فرح الفوز بالوظيفة، وفي أول يوم مباشرته، احدهم يسرق الدراجة، وهذه كانت

وسيلة العيش الوحيدة لهذا الرجل المسكين، السيء الطالع، وذي النيات الحسنة لتبدأ ldquo;أوديسياrdquo; البحث عنها في الاسواق، والاحياء الشعبية، ومنها تلك التي ما يسمى بالعالم السفلي .
يضعنا ldquo;فيتوريو دي سيكاrdquo; المخرج أمام وضع ldquo;ما بعد الحربrdquo; المؤلم اجتماعيا، في سفر احباطي، ونرى اللص هنا وهناك مطاردا من قبل هذا العامل بمساعدة طفله الصغير ldquo;أنزو ستايولاrdquo; الذي يؤدي دورا في منتهى الانفعال وهو الذي لم يقف أمام كاميرة سينما قبل هذا .في هذا السفر المتعب يصور ldquo;دي سيكاrdquo; تناقض أخلاقي لمجتمع متعب، حيث في مكان يتمتع بتضامن ساكني الحي، وفي أحياء أخرى يستقبل بالشتم، وهنا يقوم مصور الفيلم ldquo;كارلو مونتوريrdquo; بأداء رائع، فجانب تصويره المنظر العام لمجتمع مهووس في البحث عن موقعه في هذه المرحلة الصعبة، كانت كاميرته تعكس في الكثير من اللقطات حميمية هذا الرجل مع ابنه الطفل بنظرات، ولمسات سريعة، فالممثل غير المحترف ldquo;لامبيرتو ماجورانيrdquo; بشكله النحيف، وطيبة تعابير وجهه يؤدي بجدارة فائقة دورا صعبا فيما يخص هذا الانطباع، الملئ بالحب لابنه. ففي داخله تتصارع القيم بين العدل وعدمه، بين المسؤلية والشعور بالذنب، ليعكس ألم طبقة مسحوقة تبحث سبل العيش بنزاهة، وكرامة رغم شروط الفقر.
تصوير مدهش، قطعة خام من الاسود والابيض، يلتقط بذكاء كل لحظات البوئس والفقر المدفع الذي عم إيطاليا في تلك السنوات العجاف. بين الفاشية والحرب، rdquo;فيتوريوrdquo; مع صديق عمره كاتب السيناريو ldquo;سيساري زاباتينيrdquo; قاما بصنع فيلم عظيم من لاشئ تقريبا، لا ديكورات خاصة، ولا ابهة في التشكيل العام له، فمعظم التصوير كان خارجيا، في شوارع ldquo;روماrdquo; بسكانها البسطاء يتسكعون احيائها المدمرة في بحث دائم عن فرصة عمل، أو لقمة عيش.
بعد الحرب في مدينة مستنزفة و نفوس مضطربة، و مجتمع يحاول لملة اطرافه المتناثرة بين الخير و الشر، السؤ و الواجب، بين الاحتيال واحترام الذات يتركنا المخرج في سفر مرير، خاليا من الخيال السينمائي الذي اعتدنا عليه، وهذا ما كان يثير المخرج و الممثل العظيم ldquo;أورسون ويلزrdquo; الذي يعتقد بضرورة الخيال في العمل السينمائي، وهو كان من أكثر صناع السينما أحتراما ldquo;للواقعية الحديثةrdquo; الايطالية التي وضع حجر اساسها ldquo;روبيرتو روسيلينيrdquo; حتى لتكاد ان تصير افلاما وثائقية، وهنا اتذكر زيارة هذا لبغداد قبل وفاته بسنة، بصراحة لا أتذكر المناسبة ولكنه القى محاضرة رائعة في ldquo;قاعة الشعبrdquo; في باب المعظم .
من هذه الفكرة البسيطة صنع فيلما رائعا، وعرض في العديد من دور سينما بغدادية ثانوية لينتهي في تليفزيون بغداد الذي عرضه مرات عديدة، ملايين من المشاهدين، وأنا احدهم كنا نبحث، بمعاناة عن تلك الدراجة المسروقة، و كلما كنا نقترب من لحظة العثور عليها تختنق الانفاس، ومرة أخرى نشعر بالاحباط المر، ونرافق العامل الفقير في العديد من أحياء ldquo;روماrdquo; وسكانها من أغنياء و فقراء، وتناقض أخلاق هؤلاء بين الطيبة والاحتيال، وحتى النفاق بكل رداءته، بعد سنوات حرب قاسية، ومجتمع يحاول النهوض ونفض غبار الشر الذي سكن أطرافه الاساسية بواقعية مريرة، ولكنها لا تخلو من الفكاهة والمرح، و كل هذا هذا يحدث في اسفل طبقاته المتدينة، وغير المتدينة والذي لايترك اللجوء الى المشعوذين والمنجمين، و النصابين باحثا عن مستقبل أفضل، فهؤلاء نموا و أزدهروا كما العشب الردئ في حديقة جميلة، صيادي الفرص على حساب الفقراء، كما يحدث في كل المجتمعات التي تعاني فقدان الامل، بعد حروب وانتكاسات مؤلمة، وهذا يحدث الآن في العراق .
سرقة الدراجة تتحول الى قضية مصير عائلة، لانها واسطة العمل المشروطة، فقدانها يعني ضياع الوظيفة البائسة. وبعد الفشل في العديد من محاولات العثور عليها و استرجاعها يبدأ هذا الرجل الطيب في التفكير جديا في سرقة دراجة، وتنتهي روحه بالتسمم بالشر ليقوم بهذا العمل المشين ولكن الحظ لم يساعده، فيطارد ويقبض عليه من قبل نفس الرعاع الذين عنفوه سابقا حينما عثر على لص دراجته، ولم يساعدوه في ldquo;العدالةrdquo; تلك المرة، و يتعرض للاهانة والضرب أمام أبنه، وهنا قمة المأساوية في الفيلم في نهايته، والمخرج اصاب بذكاء في نهاية كهذه، و كأنه اراد القول ان المجتمعات كانت و ستكون الى الابد هكذا.
الواقعية الجديدة في السينما الايطالية التي بدأها ldquo;روبيرتو روسيلينيrdquo; في شريطه الرائع ldquo;روما مدينة مفتوحةrdquo; 1945 أشتهرت عالميا بعد عرض سارق الدراجة، وبعد اعمال مخرجين مهمين مثل ldquo;فيسكونتي ldquo; وldquo;انتونيونيrdquo; وآخرين، كي تنتشر في كل أوروبا خصوصا في فرنسا و اسبانيا.
لابد من التذكير بدور النقابات العمالية الايطالية في الاصلاح اللاحق الذي حدث بعد سنوات الحرب، ونمو هذه النقابات التي مثلت طبقة عاملة كانت تنمو ببطء، والتي استطاعت بجهد كبير الحصول على العديد من الامتيازات التي كانت محرومة منها، لينشأ حزب شيوعي إيطالي صار فيما بعد من أكبر الاحزاب الشيوعية في أوربا الغربية، الذي فاز بكل الانتخابات الديمقراطية، ولكنه لم يفز بالسلطة ابدا بسبب ldquo;العصاrdquo; الاميركية التي كانت تضعها المخابرات في عجلة التطور الديمقراطي في ايطاليا، فالتحالف بين الادارة الاميركية، والديمقراطية المسيحية بجانب ldquo;لمساتrdquo; المافيا أحبطت هذا الحلم لعقود .
في تلك الفترة تسمم المجتمع الايطالي بrdquo;فايروسrdquo; معاداة الشيوعية بتأثير العديد من العناصر، أهمها التدخل الاميركي، المباشر وغير المباشر، المهمة كانت منع وصول اي حكومة شيوعية منتخبة ديموقراطيا مهما كلف الثمن، ونجحت في هذا رغم فوز الحزب باغلبية ساحقة في كل الانتخابات، ونتائج هذا ldquo;الفايروسrdquo; نراه الان في وصول السيد ldquo;بيرليسكونيrdquo; سدة الحكم لأكثر من دورتين انتخابية وهذا يجعل من ايطاليا وناخبيها في موضع هزلي ومضحك، أمام ديموقراطيات اوروبا، فالسم يأتي من بعيد، وهذه أيطاليا الان يحكمها رجل شبه مشعوذ، ومليونير، وبهلوان في نفس الوقت .
انا أزور ايطاليا كل عام تقريبا، ومنذ سنوات، وحين أسال أحدهم سر فوز ldquo;بيرليسكونيrdquo; يقسم أنه لم ينتخبه، واحدا أعترف بصراحة انه ينتخبه، وهذا كان سائق تاكسي، قال لي بصراحة انه من منتخبيه، وقبل ان أساله، لماذا؟ واصل الحديث قائلا لانه ldquo;مليونيرrdquo; وليس بحاجة الى سرقة المال العام، وهذه كانت إجابة فيها نوع من المعقولية لولا تورطه في العديد من الفضائح الجنسية، والمالية، قضايا الفساد والرشوة التي لم ينتهي منها بعد،
أخيرا أعود الى الفيلم لأقول، انه يعتبر من جواهر السينما العالمية، وصار أشارة للعديد من صناع السينما في كل أنحاء العالم، وحصد العديد من الجوائز، منها الأوسكار.