عبد الله كرمون من باريس: هل يتعلق الأمر فيما يخص الرواية العبرية لبيني بارباشLittle Big Bangالتي ستخرج ترجمتها الفرنسية إلى المكتبات الباريسية في 13 كانون الثاني، بلوحات ساخرة أم بما يفوق كثيرا هذا الوصف؟
الكاتب إسرائيلي، ولد قبل حوالي ستين عاما في الأرض المحتلة وما يزال يعيش فيها، ويعتبر من ضمن الذين أسسوا الحركة المعروفة بquot;السلام الآنquot; ذات الهدف المعطوب، وقد سبق له أن أصدر أيضا كتابات أخرى، كما عرف أكثر بأعماله التلفزيونية.
لكن كيف يمكن التعامل مع روايته هذه؟ إذا ما اعتبرنا بأن الروح الساخرة التي تتخللها لا تكفي لوحدها كي تبعث على الضحك، لأنها تنضوي كذلك على مواقف أخرى مندسة تفسد كل اللحظات التي افترت فيها الشفاه عن ابتسامات.
ليست الرواية مملة بالفعل. إنها على العكس من ذلك سلسة ومبنية على قوة إثارة هائلة. ومرد ذلك في ظني هو أنها تعالج قصة رجل غريبة في ظروف أقل ما يمكن القول عنها أن لا مجال للاستهزاء فيها بتاتا. لكن المفصل الذي لا بد لنا من تناولها انطلاقا منه يوجد بالدرجة الأولى في كونها تريد أن تذر الرماد في العيون، بمعنى أن الكاتب يزعم أنه يريد تلافي تناول الجانب السياسي من الموضوع بأن ادعى لجوءه إلى بناء حكاية ليست عبثية تماما. أضع بهذا الشكل إذن إطارا لاعتراضاتي على الرواية، سواء في شأن اختياراتها الفنية أو فيما يخص الموقف السياسي الذي صدرت عنه (وإن بدا ملتبسا). وسوف أكتفي في الغالب بالتلميح، ما سوف يعفيني من الانخراط في سجال قد يطول.
اختار الكاتب لعبة المسخ كدعامة أساسية لعمله الروائي، في حين أننا ندرك أن هذا الخيار الفلسفي قد استنفدت مقومات الدهشة الفكرية فيه _إلا إذا كان الكاتب عبقريا وتمكن من منحه طاقات متجددة_ خاصة بعد أعمال غوغول وكافكا دون العودة إلى quot;الحمار الذهبيquot;، مع أنه لم يعمد إلى مسخ سلبي يقوم على نقصان أو تحول من حالة إيجابية إلى حالة دنيا أو إلى مسخ كلي، كما كان عليه الحال، على تفاوته، في النصوص التي تحيل عليها الأمثلة السالفة، وإنما كان المسخ الذي وظفه إضافة إيجابية (في سياقها) على المستوى الرمزي، أي كون شجرة زيتون تنبت لإسرائيلي في أذنه على أرض فلسطين، ويعتبر هذا الأمر في نظري سعيا للعب على معنى التحام اليهودي الإسرائيلي بها باعتبارها ملكا لأجداده، وأن التصاقه بها هو أداء للواجب تجاه موسى _ ضمن آخرين_ الذي كان يرمق يوما quot;الأرض المقدسةquot; من وراء الطود العالي يائسا من الوصول إليها. بالرغم من أن هناك إشارة في الرواية على لسان الراوي الابن إلى أن بعض الناس قد اعتقدوا أن والده قد تعمد إلصاق أغصان زيتون على أذنه كي يرمز إلى quot;الارتباط الدائم الذي يصل اليهود بهذه الأرضquot; (ص.155). لكن، ألم تكن تلك هي بالفعل نية الكاتب؟ أم أنه إنما فعل ذلك كي ينتقد اليهود الذين يفكرون بتلك الطريقة، لأنه هو، فيما يميزه، ينتمي إلى اليسار، ويعتبر عنصرا فاعلا في ما يسمى بحركة السلام، إلى غير ذلك من المتاهات. ألم يعلن بارباش هذا في باريس أوان معرض الكتاب (2008)، لأنه كان من بين المدعوين إليه، بأن مقاطعة الكُتاب العرب (وليس العرب وحدهم هم من قاطعوه) مؤسفة! متعمدا بذلك عدم فهم السبب الوجيه الذي دعاهم إلى مقاطعته.
أظن أن باستطاعة الكاتب انجاز رواية جيدة بعيدا عن السياق الذي كتب فيه، وعن الأفكار التي أراد إيصالها بكل ما أوتي من حيل. أفشي بهذا تلمسي لديه لدربة هامة في مجال السرد، ثم اتساع دائرة مرجعياته المعرفية والتي نجد أثرا كافيا للتدليل عليها في النص. إلا أن دوافعه الآنية، المتعلقة بquot;الشهادة والاستشهادquot; ألجمت وتحكمت في موهبته كي يرهنها إلى عفاريت المشعل الإيديولوجي التي لا ترحم الأدب متى اقترنا اقترانا.
بغض النظر عن الهدف الذي رهن له عمله الروائي كما ذكرناه، فإن الكتاب الذي بين أيدينا لم يوفق تماما، بالرغم، كما قلنا، من احتوائه على عناصر إبداعية مهمة، تقنية وأسلوبا.
فماذا كان هدفه من كتابة روايته هذه؟ وماذا سعى لإيصاله إلينا من خلالها؟ وما هي الأدوات الفنية التي وظفها لإنجازها؟
أشرنا إلى قصة المسخ التي تشكل محور الرواية، ولم نذكر بعد السبب الكامن خلف حادثة تبرعم شجرة زيتون في أذن الرجل. بالرغم من كون الرواية قد بدأت بتساؤلات من قبيل إن كانت كل واقعة تستدعي حادثا أو سببا سالفا لوقوعها، أم أن الطور الأول في أمر، كما كتب، ليس بالضرورة هو مرحلة الحافز الأول. وإن كان يواري في ثنايا هذه الكناية عينها أشياء كثيرة. وإن جعل في انبلاج تلك الشجرة من الأذن أمر إعاقة، وخطبا مستعصيا التحمت العائلة كلها لإيجاد حل ناجع من أجل التخلص منه.
لابد أن نشير قبل مواصلة الحديث بأن الراوي طفل تجاوز عقده الأول بسنتين (في حالة ما لم يتقمص الكاتب حياة الطفل الذي كانه في تلك السن مستعيدا بهذا الشكل أمرا مخالفا!). إذا كانت الأفكار التي أتى عليها أكبر من سنه، فلأن الكاتب ربما أراد بذلك التملص من تحمله لمسؤوليتها، وقد ضبطت بأن بعضها ينم عن تعميمات، لم يتحرج من إطلاقها، وكذا عن أفكار مسبقة، مغلوطة بالضرورة! هل سعى بذلك إلى انتقادها؟
إذا كان الطفل هو الذي يحكي المجريات التي كان شاهدا عليها، فلم يكن هو المتحدث الواحد الوحيد في النص، بل ولم تصدر عنه التصريحات الفجة جميعها. إذ يتعلق الأمر بعائلة بأكملها، ترمز إلى الأجيال الإسرائيلية جميعها، بما فيها تلك التي عانت من محنة شاقة في أوربا. إن ما حدث لليهود في الغرب أمر مهول يبعث على التشكيك في إنسانية الإنسان، ذلك أنهم عانوا الويلات بمجرد كونهم يهودا. إنني أعني ما أقوله، وكثيرا ما انتقدت توظيف هذه المحنة لأمور في نفس يعقوب في مجالات لا علاقة لها بها. وأكاد أجزم بأن العنصر الأسطوري الذي صنع مأساة اليهود بالأمس هو نفسه الذي يصنع، مع فارق طفيف، مأساة الفلسطينيين اليوم!
إن ما حدث لأب الراوي يشبه في وقوعه الفجائي بالنظرية القائلة بأن خلف نشوء الكون انفجارا عظيما. من هنا جاء وضعه للرواية عنوان: quot;بيغ بونغquot; مصغر. وذلك في الخاصية اللصيقة به، والتي لها علاقة بأن لا شيء قد هيأ لوقوع ذلك الانفجار/الحدث!
أن تنبت شجرة زيتون في أذن أب الراوي هو إذن أمر مباغت لا علاقة له بشيء أخر واقع من قبل. بالرغم من أن الرجل كان قد ابتلع نواة زيتون ولم يعد يدرك هل وقعت منه فعلا أم أنها بقيت عالقة في مكان ما من جسمه.
السبب الأخر الذي جر حكاية حبة الزيتون هذه هو كون الرجل كان يعاني من بعض فرط وزن وعمد إلى النقصان منه بأن واظب على أنواع مختلفة من الطرق التي دعي إليها، خاصة فيما يخص الحرص على متابعة نظام غذائي معين، وكان دوام أكل الزيتون آخر عهده بها.
إن حرصه على ذلك كله هو ما أنسانا المشكل الأول كي يتم الزج به في مهامه مشكل آخر، اتضح أن الحلول العملية للتخلص منه ليست سهلة بالمرة. أو لم يُنصح بزيارة مزارع زيتون فلسطيني مشهود له بالمعرفة؟!
على كل حال، ليست هناك، في رأيي، رموز يجب التنقيب تحت الأرض عن معانيها، وليست هناك أية متعة في إتيان ذلك، لأن الأمور بينة مثل الصقعاء في واضحة النهار. إن عودة القارئ إلى الفصل المعنون بالعرب الطيبين ستجعله يقف على الصورة السيئة التي ترسمها تلك العائلة الإسرائيلية للفلسطينيين. لن أحيط بكل ما أورده فيه، وأكتفي بأنها وصفت فيه العرب بالشعوب البدائية، وجاء فيه بأن الكل يدرك أن الثقة في عربي غير واردة، لأن العربي لا عهد له!
فلا شيء يقيم أود التهكم الذي أريد له أن يكون سمة الرواية وهويتها، ذلك أن أفكار بارباش واضحة فيها ولا يحتاج فيها إلى رموز الشجرة النابتة في الأذن، ثم ضربها انطلاقا منها لجذورها في التربة، كي يؤكد تشبث الصهاينة بأرض مسلوبة، ويألوا ألا يدَعوا شبرا واحدا منها موقعا لأقدام أهلها.
لن يضحكنا إذن، مادام يمجد الاستعمار، ويطعن في الشعوب المستعمَرة. وإن كان يسعى إلى التعرض لأفكار الصهاينة المتشددين. فإذا كانت إسرائيل هي أعنت ماركات الاستعمار، فلأنها اتخذت لها هدفا مخالفا لكل الدول الاستعمارية السابقة. فليس همها، هي، هو الزعم بتحضير الشعوب البدائية، وإنما هو الاستيلاء على أرض جاء في الأساطير أنها أرض أجداد لا بد من استردادها!
في الأخير، هناك أمر واحد يثلج صدرنا ألا وهو أن كل quot;الكوارثquot; التي حُكيت في الرواية جاءت على لسان طفل لم يبلغ سن الرشد بعد!
[email protected]