ما جرى في تونس من تغيير مفاجئ أمر مهم. وما جرى في مصر في السياق نفسه أمر أهم. لكن الأهم هو النتيجة النهائية. هو مصر ومستقبلها ودورها ووحدتها واقتصادها وإنسانها وحرياتها ولقمة عيشها. ليس ثمة شيء واضح حتى الآن.
ما جرى في مصر عبّر عن عمق مشاعر الغضب والقلق والاحتقان والفقر واليأس في نفوس المصريين. لكنه عبّر في الوقت ذاته عن بدء احتضار الحياة السياسية في البلاد إلى حد لم نرَ فيه قوى سياسية أو حركات أو أحزاباً منظمة فاعلة مؤثرة، أفرزت هي بدورها ومن داخلها شخصيات ذات وزن وأفق وعلاقات وحضور مع احترامنا لكل الذين ساهموا في فورة أو ثورة الشباب التي أطاحت بالنظام المصري.
كان عنوان quot;الثورة quot;: quot;إسقاط النظامquot;. حتى الآن تم إسقاط الرئيس. أصيب النظام بضربة كبيرة. لكنه لم يسقط سياسياً أو إدارياً أو اقتصادياً. وليس معروفاً حتى الآن إلى أين سيتجه. ولعب الإعلام دوراً مهماً في هذه العملية والنظام نفسه أصيب بالصدمة والذهول وعنصر المفاجأة. مفاجأة الإعلام، مفاجأة حجم الحركة الشعبية المناوئة له. ومفاجأة سرعة وحجم التخلي العربي والعالمي عنه لا سيما من أميركا وحلفائها.
في العالم العربي، الكل خائف. بعد تونس جاءت مصر. ثم تحركت اليمن ثم البحرين. ثم ليبيا ويبدو أن الحبل على الجّرار. أنظمة تتهاوى، قادة يجدون أنفسهم تحت ضغط الشارع بكل فئاته وبقيادات شابة لا تجربة ولا خبرة لديها.
إنه الفقر، إنه القهر. إنها الحاجة إلى لقمة العيش وإلى الحرية، إنه النظام العالمي الجديد، إنها الثورة التقنية والعلمية التي قصرّت المسافات بين الشعوب فيما بعض الأنظمة المتهاوية تريد تقييدها وفرض رقابات مختلفة على وسائل الاتصال إضافة إلى المعوقات الأخرى في طريق الشباب من أجل التغيير. بدا الوضع وكأننا أمام تركيبة كرتونية انهارت بسرعة. وهذا أمر بقدر ما هو إيجابي بقدر ما يستوجب المراقبة والمواكبة والمتابعة لمعرفة إلى أين سيصل، أو على أي شاطئ سيرسو.
الحركة التي تحصل بلا قيادة، وبلا تنظيم، وبلا برنامج، وبلا مشروع، وبلا أفق. وهذا أمر ليس عادياً، ونحن نعيش في الشرق. واعتدنا على التأثر بالرمز.
نحن أمام حالات لا رموز فيها حتى الآن، ولابد من رمز يمسك بالمبادرة هنا وهناك ولو على المستوى القطري.
فالذين تقدموا من فوق لمواكبة تحرك الشباب من تحت، أي الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى أو محمد البرادعي أو أحمد زويل، لهم دورهم وموقعهم ولديهم كفاءاتهم، لكن الشارع لم يتفاعل معهم. هم جاؤوا متأخرين. بدؤوا وكأنهم يريدون استلحاق أنفسهم أو ركوب الموجة بعد تزعزع حالة مبارك ثم بعد رحيله. ولذلك فإن المرحلة الانتقالية ستكون صعبة ومرحلة تأسيسية ربما نشهد فيها تطورات وتحركات تنحو نحو الفوضى في بعض جوانبها، ويجب التحسب لمثل هذه الحالات ولا أدري إذا كان لدى المتحركين القدرة على ذلك والخبرة الكافية في التعاطي مع مثل هذه الأوضاع. ولا بدّ من استثمار ما جرى سريعاً على قاعدة المحافظة على الوحدة الوطنية والإنجازات التي تحققت حتى الآن كي لا يتم إجهاضه من قبل أي جهة أو إفراغه من مضمونه.
مصر مرتبطة باتفاقات كامب ديفيد مع إسرائيل. وبالتزامات دولية خصوصاً مع أميركا. في ما أعلن حتى الآن لا تغيير في هذا الأمر بل تأكيد الالتزام به. فهل تقبل قوى التغيير عدم التغيير هنا؟ ونحن لم نر شعاراً في التحركات يتناول الصراع مع إسرائيل! هل تقدمت لقمة العيش وحاجة الحرية على هذا الصراع؟ ولذلك أسبابه الموضوعية، ومن سيساعد مصر قبل وضوح الصورة؟
وإذا طالعنا الأرقام التي أشير إليها في وسائل الإعلام حول الفساد والهدر ونسب الثروات المجموعة من قبل بعض أركان النظام، لأدركنا حجم الكارثة. لأنه إذا صحت المعلومات فهذا يعني أن عدداً قليلاً، بل إن نفراً من المسؤولين جمع عشرات أضعاف ما تتقاضاه مصر الثمانين مليون إنسان من مساعدات من الولايات المتحدة. مما يعني أنه لو أحسن استخدام الثروة والمصالح وتم الابتعاد عن الغرق في سياسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ونصائح أميركا وعالمها أو نظامها العالمي الجديد، لكانت مصر في وضع مختلف تماماً.
اليوم من يعالج هذه المسألة إلى جانب محاسبة المسؤولين عنها ضمن الأنظمة والقوانين؟
اليوم بدأت تحركات عفوية طبيعية يطالب أصحابها بزيادة الرواتب هنا وهناك. تعطلت حركة الإنتاج، والآن من يقرر، وكيف يكون القرار، وما هي انعكاساته؟
كل العالم يتطلع إلى مصر، وبعضه موجود فيها، يراقب. وربما يتحرك وخصوصاً أميركا وإسرائيل. لن يكون دعم سريع لمصر قبل وضوح الصورة. خصوصاً وأن ثمة تساؤلات كثيرة حول الجوار. ماذا عن رفح ومعبرها؟ ماذا عن الأنفاق؟ ماذا عن تمرير السلاح إلى الفلسطينيين؟ ماذا عن التشابك بين القوى الفلسطينية وبعض القوى التغييرية في مصر؟ ماذا عن الوضع الداخلي؟ ماذا سيكون موقف القوى السياسية؟ هل سنصل إلى برنامج الحد الأدنى فيما بينها؟ ماذا سيكون موقف الأقباط والبابا شنودة العربي أعلن تأييده لمبارك رغم كل الملاحظات عليه والمشاكل التي تعرض لها الأقباط في ظل نظامه. لكن التأييد هذا لم يكن لمبارك ونظامه على بياض، بل كان تعبيراً عن خوف وقلق من البدائل على ما أعتقد!
لا أدعي خبرة ومعرفة بالواقع الداخلي المصري. وبالتالي لا أدعي إجابة على كل الأسئلة المطروحة. ولذلك ينبغي التعامل بهدوء مع ما جرى ورصد كل ما سيجري لمعرفة اتجاه الريح. لكن ألمح ومنذ فترة غير قصيرة استهدافاً لكل النظام العربي من داخله ومن خارجه مستنداً إلى الترهّل الذي أصابه والفضيحة التي تكشفت مؤخراً عن بنيانه لكن العين عليه لفرطه وليس لإعادة بنائه أو ليعود ويبني نفسه قوياً.
ليست نظرية مؤامرة. فما جرى في مصر وتونس وما يجري في العالم العربي مهم جداً جداً ويعبّر في جزء منه عن تطلعات البعض منذ زمن طويل لكن المهم معرفة أبعاد المشهد جيداً.
غازي العريضي
التعليقات