خيرالله خيرالله

أي ليبيا بعد الأحداث الأخيرة، هل في استطاعة معمر القذافي استعادة السلطة المطلقة التي كانت همّه الوحيد منذ اليوم الأول لاستيلائه عليها في الأول من سبتمبر من العام 1969؟ الجواب أن صفحة طويت في ليبيا. صفحة ما يسمّى laquo;الجماهيريةraquo;. تبقى ليبيا موحدة كما عرفناها أم لا؟ هذا سؤال آخر. ربما كان هو السؤال الأساسي في الأيام والأسابيع القليلة المقبلة...
سيظل هناك، في طرابلس والمناطق القريبة منها، من يدافع عن العقيد معمر القذّافي ونظامه لفترة طويلة في غياب مفاجأة كبيرة تتمثل في دخول قوة خارجية على خط ضبط الاوضاع الداخلية في ما كان يسمّى laquo;الجماهيريةraquo;. قد يتمكن القذافي من الذهاب إلى قبيلته في سبها أو سرت والبقاء في حمايتها حتى أيامه الأخيرة، تماماً كما فعل قبله الرئيس الصومالي محمد سياد بري في العام 1991 حين فرّ من مقديشو ولجأ إلى قبيلته. الفارق بين ليبيا والصومال أن احتمال تدخل المجتمع الدولي في ليبيا وارد إلى حدّ ما، على طريقة العراق، نظراً إلى أنها غنية بالنفط والغاز من جهة، وأن استقرارها جزء من الاستقرار الاوروبي من جهة أخرى.
لا يمكن، إلى إشعار آخر، الاستغناء بسهولة عن إمدادات النفط الليبي ذي الجودة العالية الذي يعتبر مسألة حيوية، خصوصاً بالنسبة إلى اوروبا. أمّا الصومال، فلا فائدة تذكر منها، باستثناء أن لديها موقعاً استراتيجياً في منطقة مطلة على البحر الأحمر. ستستعيد الصومال أهميتها في مرحلة ما. في الصومال، يستطيع العالم الانتظار طويلاً، في حين من الصعب عليه عدم اتخاذ موقف سريع وحاسم عندما يتعلق الأمر بليبيا، وذلك في ضوء موقعها الجغرافي المميز وثرواتها الطبيعية وقربها من اوروبا...
أياً تكن نتيجة الأحداث الأخيرة في ليبيا، دخل البلد مرحلة جديدة. انتهى نظام استمرّ اثنين وأربعين عاماً قام على شخص واحد امسك بكل مفاصل الدولة. يرفض القذافي أخذ العلم بذلك. بالنسبة اليه، لم يتغيّر شيء. لا يزال العقيد يعتبر نفسه ذلك الضابط الذي استولى على السلطة في العام 1969 مع مجموعة من رفاقه الذين تخلص منهم الواحد تلو الآخر معتمداً على دهائه، وقدرته على استخدام التناقضات... بما في ذلك تلك التي كانت بين ابنائه!
السؤال الكبير الآن هل في الإمكان إعادة بناء البلد بعد أعوام طويلة كان همّ القذافي خلالها محصوراً في تدمير مؤسسات الدولة بدءاً بالجيش وصولاً إلى وزارة الخارجية مروراً بكل ما له علاقة بالاقتصاد والتعليم والتنمية والانفتاح على العالم. نجح القذافي إلى حد كبير في إقامة نظام يسهل عليه التحكم به من خلال المال والأجهزة الامنية المرتبطة به مباشرة. كانت قوة القذافي مستمدة من تحكمه بالصندوق الذي فيه عائدات ليبيا من النفط والغاز. كان يغدق منه على من يشاء ويحرم من يشاء!
لماذا انتهى القذافي بهذه الطريقة؟ لا يمكن في أي شكل الاستخفاف بذكاء الرجل وقدرته على المناورة داخلياً وتأليب القبائل الليبية على بعضها البعض. ربما كان القذافي أفضل من يعرف ليبيا والليبيين. لكن مشكلته الأساسية تكمن في أنه لم يعرف يوماً أن هناك نظاماً دولياً ليس في استطاعة دولة لا تمتلك سوى ثروة نفطية التغلب عليه. لعب القذافي في فلسطين ولعب في لبنان وفي دول افريقية عدة، خصوصاً في تشاد، ووصل حتى إلى ايرلندا والفيليبين. اختار التعاطي مع اسوأ الفلسطينيين واللبنانيين. أقام تحالفاً مع ايران ومدها بالصواريخ خلال حربها مع العراق. كانت صواريخ القذافي تسقط على بغداد. لم يوجد بين العرب من يسأل القذافي لماذا يفعل ذلك، هل كان كافياً أن يكون هناك عداء بينه وبين غبي اسمه صدّام حسين كي تسقط صواريخ ليبية على بغداد؟
دخل القذافي عالم الاعلام باكراً. أنشأ صحفاً ومجلات ودور نشر ومراكز دراسات في بيروت وباريس ومدن أخرى صرف عليها الملايين لكنه لم يحسن استخدامها. انه يشكو اليوم من استخدام الإعلام ضده. يا لها من مفارقة. كان يفترض به ان يسأل نفسه لماذا فشل إعلامه ومن المسؤول عن ذلك؟ لماذا نجحت قطر وفشلت ليبيا، علماً أن البلدين قادران على صرف المبالغ نفسها تقريباً على المؤسسات الإعلامية المطلوب منها تأدية دور ما؟ الآن، بعد فوات الاوان يجد القذافي نفسه من دون إعلام وإعلاميين ومن دون فضائية تدافع عنه. ربّما تكمن مشكلة الرجل في انه لم يبن مؤسسة ناجحة واحدة على الرغم من كل الأموال التي كانت في تصرفه...
لم تكن لدى القذافي يوما سياسة متماسكة في اي حقل من الحقول باستثناء الامساك بالسلطة والمحافظة على النظام الذي أقامه. فشل في الإعلام فشلاً ذريعاً، كذلك في السياسة حيث كان عليه تغطية أخطائه الضخمة عن طريق دفع مليارات الدولارات. أما رؤيته للاقتصاد فكانت شبه معدومة. اعتقد دائماً أن القتل يمكن أن يحل مشاكله مع معارضيه، وأن ضرب المؤسسات الاقتصادية، وتدمير النسيج الاجتماعي للمجتمع سيضعان جميع الليبيين تحت رحمته. لم يحل القتل أي مشكلة. لا قتل المعارضين في الداخل والخارج ولا التخلص من شخصيات في حجم الإمام موسى الصدر. لم تنفع القذافي الاستعانة بتنظيم إرهابي تابع لـlaquo;ابونضالraquo; ومن على شاكلته من زعماء للتنظيمات الفلسطينية المارقة المقيمة في دمشق والتي لا همّ لها سوى الاساءة الى لبنان واللبنانيين... وقضية فلسطين!
اهتم القذافي بكل شيء باستثناء رفاه الليبيين وتحسين أوضاعهم. ربط استمرار نظامه بابقاء المواطن الليبي فقيراً ومتخلفاً وتحت رحمته. تحدث عن الاصلاحات متأخراً. راهن حتى على التنافس بين أبنائه على خلافته فأخرجهم جميعاً من لعبة السياسة. حوّل معظم هؤلاء إلى قادة لميليشيات مسلحة تدافع عن مكاسب ومصالح مرتبطة بالنظام. لم يفهم حتى معنى تخلصه من العقوبات الدولية وابعاد ذلك، لا بعد تسوية قضية لوكربي، التي سيتبين يوماً أنه لم يكن مسؤولاً عنها وحده، ولا بعد تخليه عن أسلحة الدمار الشامل. لم يفهم أن الاصلاحات الجذرية كانت وحدها كفيلة بانقاذ نظامه وأنه كان عليه السير فيها إلى النهاية، خصوصاً بعد استسلامه للأميركيين. لا يمكن أن تستسلم للأميركيين وأن تنقلب عليهم في اليوم التالي بحجة أن كل ما يريدونه هو نفط ليبيا.
قد يبقى القذافي زعيماً على إحدى المناطق الليبية كما قد تلاحقه العدالة الدولية. كل ما يمكن قوله ان هناك ليبيا جديدة انتصرت على laquo;الجماهيريةraquo; بكل ما تمثله من تخلف. عادت ليبيا إلى ليبيا بفضل شعبها المتمسك بثقافة الحياة ولكن من دون أن يعني ذلك أن لا مخاطر على وحدة البلد ومستقبله. هل تبقى موحدة، هل هناك مجال لإقامة نظام ديموقراطي حقيقي، أم ينتقم القذافي على طريقته من الشعب الذي ثار عليه على طريقة انتقام سياد بري من الصوماليين، أو انتقام صدّام حسين من العراقيين؟. علينا أن نتذكر دائماً أنه منذ العام 1991، لم تعد هناك دولة في الصومال... وأن العراق لم يقم له قيامة بعد على رغم مرور ثمانية أعوام على إلقاء نظام صدّام في مزبلة التاريخ!