وليد نويهض

معارك الكر والفر بين ثوار ليبيا وميليشيات ديكتاتور الجماهيرية للسيطرة على المنطقة الوسطى بين شرق البلاد وغربها أخذت تتصاعد ميدانياً مخلفة الدمار وعشرات الضحايا. فالعمليات العسكرية بين هجوم ودفاع وتراجع وإعادة تموضع تمهيداً لصد هجوم مضاد كلها مؤشرات تدل على أن الحرب طويلة ولن يتم حسمها في أيام.

احتمال تمدد الحرب وتدحرجها كانت مسألة متوقعة لأن الديكتاتور نجح خلال فترة حكمه في احتكار السلطة ومصادرة عناصر القوة وتفكيك الوحدة وشرذمة البلاد إلى مراكز قوى وتقطيع الجيش إلى وحدات منفصلة ونشر القبائل في أحياء سكنية تتعايش وتتجاور في المدن الرئيسة المنبسطة من طبرق وبنغازي في الشرق إلى طرابلس والزاوية في الغرب وسرت ومصراته في الوسط.

هذا الانفلاش الذي تعمد الديكتاتور نشره خلال أربعة عقود لحماية سلطته وضمان تحكمه بالبلاد يوضح الأسباب التي تقف وراء استمرار معارك الكر والفر. فالدولة المركزية غير موجودة فعلياً في ليبيا كذلك الجيش والمؤسسات الوطنية. البلاد محكومة محلياً من خلال شبكة من اللجان الفوضوية التي تخضع لمراقبة تشرف عائلة القذافي وأسرته على توجيهها مباشرة اعتماداً على قنوات منتدبة من قبل الديكتاتور.

ليبيا حالياً تحتاج فعلاً إلى إدارة مركزية تستطيع إعادة توحيد البلاد متجاوزة التقسيمات المحلية التي تشبه رقعة الشطرنج في تقطعها الوظائفي وتقاطعها القبلي والجهوي. المسألة غير سهلة لكنها ليست مستحيلة في حال وضعت خطة مبرمجة تربط المناطق تحت سقف وحدوي تجتمع في وسطته هيئات تم تهميشها أو عزلها حتى لا تشكل خطراً على الديكتاتور.

هناك صعوبات تواجه الثوار وأهل الانتفاضة متمثلة دولياً بعدم تخلي عواصم القرار عن رجلها في ليبيا، إلى ضعف الموقف العربي الرسمي في وضعه الراهن وعدم قدرة دول الجوار (مصر وتونس) تأمين البدائل والدعم اللوجستي وتعزيز المناطق الخلفية وحمايتها من الاختراق.

حتى الآن تبدو الأمور تتجه لمصلحة الثوار وأهل الانتفاضة على رغم محاولات الديكتاتور الاستفادة من عامل الوقت وتوظيف الحياد الدولي (تردد الغرب) بتخويفه من الفوضى العامة وتسرب السلاح إلى السكان وما ينتج عنه من انزلاقات أهلية.

عامل الوقت يلعب لمصلحة الديكتاتور في جانب معين لكنه قد ينقلب ضده في حال نجح مجلس قيادة الثورة (بنغازي) في تشكيل مظلة حماية تعتمد على الأهالي والنواة العسكرية المدربة والمجهزة التي أعلنت انضمامها للانتفاضة. ومسئوليات المجلس لا تقتصر على الداخل وتحديداً إعادة وصل العلاقات مع القبائل واستثمارها في تعديل موازين القوى ميدانياً وكسر شوكة الديكتاتور زنقة زنقة، وإنما هناك مهمات خارجية تتطلب البدء في توسيع شبكة الاتصال مع مختلف العواصم الدولية إضافة إلى القارة الإفريقية ودولها المنضوية في منظمة الوحدة (الاتحاد الإفريقي).

إفريقيا الآن تحتل الأولوية وتحتاج إلى لقاءات سريعة مع قادة دولها لتوضيح ملابسات laquo;فرق المرتزقةraquo; وإزالة الحواجز وتلك المخاوف التي ارتفعت حرارتها بعد صدور تصريحات تتهم بعض دولها بالتدخل. لوجستياً (الجغرافيا السياسية) تعطي أهمية قصوى للجوار الإفريقي (جنوب ليبيا تحديداً) لكونه يمتلك احتياطاً بشرياً قادراً على استنزاف الثورة وأهالي الانتفاضة في حال صدقت اتهامات التدخل وإرسال المساعدات والتعزيزات بغطاء غربي (أميركي - أوروبي).

بسبب العامل اللوجستي الجغرافي السياسي لابد أن يتنبه المجلس الثوري لهذه الثغرة ويبدأ بإرسال الوفود الدبلوماسية إلى العواصم الإفريقية ودول الجوار لشرح تطلعاته وخططه عن المستقبل وتطمين الحكومات هناك بعدم وجود تغيير في التوجهات التي تأسست سابقاً تحت شعارات ديماغوجية فضفاضة ويمكن أن يعاد تأسيسها لاحقاً على قاعدة المصلحة وضمن اتفاق إطار يحقق الاستقرار الإقليمي والانتعاش الاقتصادي.

إعطاء ضمانات لدول الجوار الإفريقية لا تقل أهمية عن المظلة العربية وتجسير خطوط الاتصال مع عواصم القرار شرقاً وغرباً من خلال تأكيد التزامات ليبيا الحرة بالاتفاقات الاقتصادية والنفطية والإنشائية السابقة معطوفة على احترام طرابلس الجديدة للمعاهدات والمواثيق والقرارات الدولية.

هذه المهمات الدولية والجوارية بالغة الأهمية لتعزيز الصدقية السياسية لقيادة مجلس الثورة وأهل الانتفاضة. وهي تتطلب حراكاً سريعاً لمنع الديكتاتور من كسب الوقت والاستفادة من الكر والفر لتعزيز سمعته المتهالكة وإعادة تجميع الأوراق التي خسرها في الأيام الأولى في فترة الانفجار التي هزت العالم وفضحت خطاب الطاغية وهلوساته وتهديداته بحرق ليبيا.

المطلوب من القوة الصاعدة والبديلة أن تقوم بجهد مضاعف لكسر الصورة النمطية التي رسمها الديكتاتور للشعب الليبي خلال 42 عاماً. فالصورة الرائجة في العالم هزلية وسخيفة وكاريكاتورية عن أهالي البلاد بسبب سياسة التهريج والحركات البهلوانية والتصرفات المسرحية التي دأب الطاغية على نشرها في الإعلام والمنابر الدولية. أدى هذا النوع من الهلوسة الأيديولوجية إلى ترسيم صورة لا تنسجم مع ثقافة الشعب الليبي ولا تتوافق مع تاريخه ونمط حياته.

إعادة الاعتبار للشعب الليبي مهمة طويلة، لكنها بدأت من خلال ما نقل من مشاهد التغيير والبسالة والاستعداد للتضحية ما أعطى صورة جديدة وبديلة عن مهازل الديكتاتور وتخريفاته. المهمة صعبة وتحتاج إلى فترة زمنية لإزاحة كابوس الطغيان وكسر الصورة النمطية التي ترسخت خلال العقود الأربعة، وهذا يتطلب من قيادة مجلس الثورة التحرك بسرعة لإزالة قناع المهرج وترسيم ملامح وجه مخالف يعطي فكرة صحيحة عن الشعب الذي غيّبه الديكتاتور عن مسرح التاريخ.

الانطباع السائد، في العالم الذي لا يعرف حقيقة الأمور، أن الليبيين يقاربون الديكتاتور المضحك - المبكي في اصطناعه للحركات المسرحية وملابسه وتصرفاته المقززة. الطاغية ألغى الشعب الليبي من القاموس واختزله عالمياً بصورته البهلوانية وخطاباته الهستيرية ما أدى بفعل تقادم الزمن إلى توصيف الناس على مثاله الظاهر على الشاشات والمنابر.

هذا النوع من التغييب المتعمد للشعب الليبي احتاجه الديكتاتور حتى يرتب قوته في إطار بلد مهمش يعيش خارج الزمن وتفاعلاته ومضاعفاته. وتحطيم شخصية الليبي وعزلها عن العالم الواقعي أعطت قوة مضافة للطاغية ساعدته على التحرك بسهولة من دون مساءلة أو مراقبة، الأمر الذي يفسر غضبه حين انفجرت الانتفاضة وبدأت خطواتها الأولى في تحطيم الصور والأصنام وشواهد الكتاب الأخضر والعودة إلى رفع العلم الليبي أثناء عهد المملكة.

العالم بدأ يتعرف الآن على ليبيا الحقيقية وأخذ يكتشف شخصية أخرى مخالفة للقناع وغير متوافقة مع الصورة المرضية التي بالغ الديكتاتور في ترويجها. لكن كل هذه الإنجازات والتضحيات لاتزال في البداية بسبب الصعوبات اللوجستية التي تواجه رجال الثورة وأهل الانتفاضة في كسر الطوق والقيود الجوارية والدولية مضافاً إليها عمليات الكر والفر العسكرية وصمت عواصم القرار ومراهنة الديكتاتور على عامل الوقت واحتمال نمو الفوضى في المناطق المحررة.

تجاوز هذه العقبات يتطلب من قادة مجلس الثورة فتح أبواب الاتصالات والحوار لتأمين الضمانات وتوفير الطمأنينة والمباشرة في إعادة تنظيم القوة لترجيح التوازن لمصلحة ليبيا الجديدة. الكر والفر إذا طال أمده الزمني قد ينقلب لمصلحة الديكتاتور ويعطيه فرصة للانقضاض، لذلك لابد من أخذ قرار الحسم حتى لا يلجأ إلى احتياط النقد وخطاب التخويف لتعديل الميزان المتأرجح بين الكفتين.