جابر حبيب جابر
يدور اليوم جدال حول إمكانية فرض منطقة حظر جوي في ليبيا لمنع النظام من استخدام الطائرات لقصف المناطق المتمردة عليه وبالتالي إيقاع أعداد هائلة من الضحايا. وكان أسلوب حظر الطيران قد استخدم للمرة الأولى في العراق إثر التمرد الشعبي الذي حصل في الشمال والجنوب عام 1991 بعد هزيمة الكويت، وقد تم اعتماده بعد نزوح مئات الآلاف من المواطنين الأكراد إلى المنطقة الحدودية مع تركيا إثر تصاعد العمليات القتالية بين النظام والمتمردين وبعد أن أسقطت طائرات النظام منشورات تهدد باستخدام السلاح الكيمياوي مما أثار ذعرا كبيرا خصوصا أن للأكراد ذكرى مؤلمة مع هذا السلاح. وتم إثر ذلك إقامة منطقة آمنة على الحدود العراقية التركية حظر فيها على قوات صدام حسين الوصول إلى هناك وتبع ذلك حظر جوي شمل عموم منطقة كردستان، مما مهد لإضعاف سيطرة النظام عليها ومن ثم انسحابه من المنطقة.
ولكن ذلك ليس وجه الشبه الوحيد بين الحالتين العراقية عام 1991 والليبية اليوم، فالنظامان متشابهان إلى حد كبير، وطريقة تعاملهما مع أي تمرد شعبي تقوم على العنف المفرط والتخوين. كلا النظامين بنى سلطته على تدمير المجتمع المدني وتفتيت المجتمع الأهلي لضمان استمراريته، وكلاهما استخدم سياسة خارجية تقوم على الخطاب الراديكالي الذي يتغنى بالمثل الوطنية والقومية وبتحدي الإمبريالية وبالدفاع عن حقوق الشعوب المظلومة وبمعاداة الصهيوينة، وكلا النظامين لم يفعل شيئا لجعل هذا الخطاب مطابقا للواقع. مقابل هذه الوطنية الخطابية في الخارج تم داخليا اعتماد سياسة تفتيت المجتمع وتقوية القيم ما قبل الوطنية، لا سيما تلك التي تقوم على القبلية والعشائرية. تم تشكيل مؤسسات الأمن والجيش على أساس عنصر الولاء للنظام لا للوطن ولعبت الانتماءات القبلية والعشائرية دورا رئيسيا في تقييم درجة الولاء. وتم إحداث مطابقة كبيرة بين النظام والوطن، فمعارضة أحدهما صارت تعني معارضة الآخر.
كلا النظامين نزع إلى شخصنة السلطة وتفكيك المؤسسات أو إضعافها أو تحويلها إلى كيانات هامشية تخضع لمزاج القائد، ومن اللافت أن رأسي النظامين كرها دائما محاولة تصويرهما كمجرد رئيسين دستوريين، بل فضلا صفة القائد ملحقة بها صفات أخرى، فكلاهما رأى أنه أكبر من أن يقولب بدستور وقانون يحدد صلاحية الرئيس وسلطاته، وعندما قبل أحدهما بنوع من المأسسة كان يسعى لضمان أن يظل هو قائدا استثنائيا متجاوزا للزمان والمكان، بل ووجود الوطن كان مقترنا بوجوده. من هنا أشار مشروع الدستور الذي عرضه نظام صدام عام 1990 ثم تناساه بعد ذلك، إلى أن أي رئيس أو مسؤول يجب أن يؤمن بقيادة القائد صدام حسين وبقادسية صدام وبأم المعارك بوصفها جميعا تجسد مبادئ الشعب وروحه. هذه المحاولة لجعل مصير الوطن مرتبطا بالقائد نجدها اليوم تتجلى بوضوح في خطابات القذافي وهو يدعي أن الشعب الليبي مستعد للموت من أجله، وهو يتحدث عن نفسه دائما بضمير الشخص الثالث، ذلك أن هذا النوع من المستبدين يأخذ تدريجيا بتصديق كذبة أنه استثنائي وأن اسمه بات قيمة وطنية وأخلاقية عليا يتمثل بها الوطن.
لم يدرك الرجلان إمكانية وجود الوطن من دونهما، فسعيا بكل ما استطاعا لإلغاء أي بديل وطني ولزرع بذور التفتت والاحتراب، وكم تشابهت مقولة نظام صدام بأن من يريد السيطرة على العراق بعدنا سيستلمه أرضا بلا شعب، وبين مقولة القذافي بأنه سيقاتل حتى آخر رجل وآخر امرأة في ليبيا. في التسعينات ومع تراجع موارده التي كان يستخدمها في بناء الأجهزة الأمنية القوية وشراء الإعلام والذمم، لجأ نظام صدام بقوة إلى سلاح القبلية فقام بإعادة قبلنة المجتمع العراقي بنفس طريقة البريطانيين حينما أقاموا صلات بشيوخ بعضهم قاموا باختراعهم بأنفسهم ليضمن كل شيخ الأمن والنظام في منطقته، وحدث ذلك في وقت كان المجتمع المدني الحديث يحتضر تحت وطأة العقوبات الاقتصادية وغياب الحريات. وفي ليبيا عمد النظام إلى تقسيم المجتمع قبليا لضمان عدم قدرته على الاتحاد في مواجهته، ومن أجل أن يلزم الزعامات القبلية بالولاء إليه مقابل ما يغدقه من امتيازات عليهم.
ليس غريبا في ظل بناء هذا النوع من الأنظمة وسعيها إلى إحاطة نفسها بروابط الولاءات في المركز، أن يبدأ التمرد في الأطراف، وهو ما حصل في عراق 1991 وفي ليبيا اليوم. فالأطراف تعاني تهميشا كبيرا لأن النظام لا يعطيها اعتبارا في تصنيفه المجتمع بحسب معيار الولاء، ولأنه يمركز الموارد في يده وتستفيد منها شبكات المريدين حوله بينما تعاني الأطراف من الفقر والتهميش. وحينما يبدأ التمرد من الأطراف تكون فرصه في إسقاط النظام أصعب لأنه يأخذ شكل الزحف نحو المركز بما يتطلب تذليل الكثير من العقبات في الطريق سواء بإقناع المترددين بالانضمام أو بمقاتلتهم مما يؤدي إلى تحول laquo;الانتفاضةraquo; إلى حرب أهلية، وهو ما يستثمره النظام من أجل إخافة جزء من السكان من الجزء الآخر واستثمار هذا الخوف من أجل أن يستمر بالحياة، فهذه النظم تلتقي أيضا في أنها تعتاش على الخوف.
المشترك الأخير هو النفط، وهو مشترك يجعل القوى الدولية حذرة من أن تفلت الأمور بما يضر مصالحها، فتظهر ميلا للتدخل الذي يأخذ بالطبع شكل التبرير الإنساني، ولكنه ينطوي على مصالح قد يكون هدفها مغايرا لهدف الساعين للتحرر من سلطة نظام ديكتاتوري. وهنا أيضا ستتشابه أقدار البلدين إلى حد كبير..
التعليقات