محمد صلاح الشيخ


سقطت بغداد، لا أقصد هنا سقوطها في 2003 بل أقصد سقوطها الأول أمام المغول 1256م، لم يكن هذا السقوط مفاجئا فقد سبقته عقود طويلة من تدهور الدولة العباسية التي كانت بغداد عاصمتها وحاضرتها العظيمة.

وعبر سنوات التدهور هذه ابتعدت الثقافة العربية والإسلامية عن أصول كثيرة لها بقيت حتي بعد انهيار أصلها الأهم وهو الشوري الذي كانت الدولة الأموية قد قضت عليه قبل مئات السنين.


في هذه الأجواء اجتهد فقهاء عظام لمحاولة البحث عن الأصول المفقودة بالرجوع الي مواقف السلف الصالح وعلي رأسهم الخلفاء الأربعة الراشدون، لكن تلاميذ الفقهاء العظام لم يكونوا علي نفس الدرجة من الوعي خاصة إذا كان التأثير السياسي ضاغطا عليهم لنصل في النهاية الي مرحلة علماء السلطان الذين لا هم لهم سوي تبرير ظلم حكام الطغيان.

وتأتي حقبة الاستعمار كعامل اضافي زاد من اختلاط الأوراق.. إذن كانت هذه المحاولة لإحياء سلوك السلف مرتبطة بلحظة ضعف لم يشهدها المسلمون من قبل لكنها تكررت من بعد وأثناء تدهور مماثل، عاشه المسلمون في نهايات الدولة العثمانية حيث سيطر كثير من الخرافات علي الفهم الصحيح للإسلام، فكانت محاولة محمد بن عبدالوهاب لإعادة بعث روح الإسلام كما طبقها السلف الصالح من المسلمين الأوائل، لكن مشكلة هذه المحاولة الإصلاحية أنها كانت تحت ظل مشروع سياسي لإقامة إمارة حاكمة لأجزاء من نجد شرق الجزيرة العربية وهو المشروع الذي انتهي بنجاح عبدالعزيز آل سعود في إقامة الدولة السعودية الثالثة وبسط سلطانها علي كل نجد والحجاز، ورغم أن هناك ايجابيات كثيرة لهذا المشروع خاصة أثناء المد الشيوعي في الحرب البادرة إلا أن وجود سلبيات كبيرة كان طبيعيا ومتوقعا نتيجة التناقض ما بين السلفية الحقة التي تدعو الي حق الأمة في محاسبة الحاكم وهو ما كان واضحا أثناء الخلافة الراشدة خاصة مع الصديق والفاروق وما بين رصيد ضخم تم بناؤه أثناء فترات الاستبداد الطويلة التي عاشها المسلمون رسخ فكرة الاستسلام للحاكم الظالم خوفا من فتنة كان يتم المبالغة فيها جدا طوال ما يزيد علي ألف وثلاثمائة سنة.

هذا الرصيد نفسه هو ما رأيناه أثناء ثورتنا العظيمة التي أدركت فيها جموع كثيرة من المصريين خطأ هذا الفهم ومخالفته للسلفية الحقة ولندرك أيضا أن الضعف الذي لحق بتلاميذ الأئمة: ابن حنبل وابن تيمية وابن عبدالوهاب قد أوصلنا الي سلفية شكلية وهو ما أوقع بعضا منها في النهاية لأن يكون جزءا من بنية أنظمة الظلم والطغيان التي ما جاء الإسلام إلا للقضاء عليها تحريرا للإنسان وحفظا لكرامته ودون الوقوع أسري لمعارك وهمية مع متطرفين آخرين علي رأسهم متطرفو العلمانية الذين ساعدوهم أيضا في زيادة نيرانها وأصبح الجهل هو سيد الموقف فلا السلفيون الشكليون يعرفون حقيقتها ولا العلمانيون يدركون أنه لا علمانية مطلقة ترفض كل مرجعية شعبية كانت أم دينية وكما ذكرت في مقال سابق فإن أحدا في ألمانيا لا يستطيع إنشاء حزب نازي أو حزب شيوعي فهذه مرجعية وضعها الألمان نتيجة خبرة قاسية دفعوا فيها أثمانا باهظة.

إن خطر السلفية الشكلية لا يقل عن خطر العلمانية التي لا سبب لوجودها في مجتمع إسلامي لا يستطيع أحد من علماء دينه مهما علا قدره أن يمارس ما تمت ممارسته ظلما علي أيدي رجال الدين المسيحي في أوروبا الذين استخدموا الدين للسيطرة علي شعوبهم ومنعوا تقدمهم ومن هنا لم يكن للغرب أن يقدم للإنسانية كلها تجاربه العظيمة في التحرر والمساواة دون الخروج من سيطرة هذه الطبقة التي استغلت الدين فيما ليس له لكن بعض رجال الدين المسيحي في الشرق أيضا كانوا بعيدين عن مسيحيتهم الصافية الداعية للتسامح والمحبة فأنشأوا سلفية مسيحية تماهت مع أنظمة الاستبداد لتصنع من المسيحيين قبيلة يعود الأمر والنهي فيها لرأسها الذي لاترد كلمته.

وبين السلفية الشكلية في كل من الإسلام والمسيحية مقترنة بمتطرفي العلمانية ضاع صوت العقل المتفتح والضمير اليقظ الذي يدرك أنه لا فصل للدين عن الدولة لكنه يدرك أيضا أصول التواصل بينهما عبر الدستور والقانون ولعل المشهد الأخير في الاستفتاء علي التعديلات الدستورية كان شاهدا علي ذلك حيث تم التدليس باسم الدين في معركة وهمية لا وجود لها حول المادة الثانية من الدستور.

لقد آن الأوان في مصر أن ننظر بجدية أكبر الي نموذجي أردوغان في تركيا ومهاتير محمد في ماليزيا كمثال للوسطية الإسلامية التي لا تخاصم الحاضر وتسعي للمستقبل بآخر أدوات العصر متمسكة بجوهر الإسلام دون الاهتمام المبالغ فيه بالشكل طالما أنه ليس متعارضا مع أصول الإسلام فالذين يتصورون أن السلفية مجرد جلباب وعمامة لابد أن نسألهم: هل الملابس التي يرتديها الناس اليوم في أي رقعة من العالم تماثل ما كان يرتديه أجدادهم من مئات السنين؟!

وبنفس الجدية التي سننظر بها لأردوغان ومهاتير محمد مطلوب منا أن ننظر الي تجربة النحاس باشا الذي لم يستطع أي تيار سلفي أو علماني متطرف المزايدة عليه حين رفض أداء الملك فاروق اليمين الدستورية أمام شيخ الأزهر لأنه كان زعيما وسياسيا عظيما أدرك أصول التواصل بين الدين والسياسة وتلك هي السلفية المطلوب إحياؤها اليوم.