ميشيل كيلو
عندما خرج معمر القذافي مدافعاً عن زين العابدين بن علي وموبخاً الشعب التونسي، بحجة أنه لن يجد مثيلاً لرئيسه المطرود، وأنه كان عليه انتخابه رئيساً مدى الحياة، على حد قول بطل النظام الجماهيري، الذي ظل ينصح الجماهير بالثورة من أجل إعلان الجماهيرية، وحين خرجت بالفعل في تونس وبخها لأنها لم تنتخب رئيسها مدى الحياة .
آنذاك، ظن العرب أن العقيد الغريب الأطوار يتحدث مع التوانسة من ldquo;باب المونةrdquo;، وليس لأنه خائف من شعبه . وكانت سمعة العقيد تسبقه باعتباره واحداً من أكثر من ظهروا في تاريخ العرب القديم والحديث سلطوية وتمتعاً بحس السلطة، كما كان معلوماً أنه لم يترك أحداً من زملائه الذين شاركوه الثورة في مكانه أو منصبه، بل صفاهم أو أبعدهم واحداً بعد آخر، حتى إن بعض الأحياء منهم يبدون كأموات ويتصرفون كموتى، خوفاً من ldquo;الأخ قائد الثورةrdquo;، الذي يردد دوماً أنه ليس حاكماً يملك سلطة بل هو قائد ثورة فقط، أي مصدر كل سلطة يمكن أن توجد في بلاده، وجهة تستطيع محاسبة كل موظف في الدولة، أينما كان موقعه ومركزه، من دون أن يكون بوسع أحد حتى مجرد التفكير بمحاسبته هو .
ومع أنه بدا واثقاً من نفسه في خطبه التي دافع فيها عن بن علي ومبارك، فإن لعبته لم تنطل على شعب ليبيا، الذي ما لبث أن انتفض ضده في كل مكان من أقصى شرق البلاد إلى أقصى غربها، لكنه، وهو الذي يعيش في عالم من الأوهام نسجه بعناية حول نفسه كفيلسوف ومنظر، رفض التجاوب مع مواطنيه، ولم ير في تمرد الشارع تعبيراً عن الإرادة الثورية، التي لا يكف عن التحدث عنها، بل اعتبره تمرد ldquo;جرذان ومقملينrdquo;، ووعد أن يزحف عليهم بالملايين لتطهير ليبيا، كما قال في خطبة يتندر عليها اليوم شباب العرب في كل مكان: ldquo;من الصحرا إلى الصحرا: شارعاً شارعاً، وبيتاً بيتاً، وداراً داراً، وزنقة زنقة، وفرداً فرداًrdquo;، فكان إعلانه بداية حرب أهلية لا تبقي ولا تذر، يفترض أن واجبه الوحيد كrdquo;أخ قائد للثورةrdquo; هو جعل بلاده تتجنبها لا أن تغرق فيها، وأن يوفر على شعبه التعرض لنتائجها المأساوية . باختصار: حول العقيد الاحتجاج الشعبي إلى حرب أهلية لردع الشعب وجعله يعود إلى بيت طاعته .
وكان أحد الإخوة الليبيين قد حلل وضع الثورة القذافية بالقول: إن الإيطاليين أبادوا نيفاً وثلاثة ملايين ليبي، وعندما قامت الثورة لم يكن هناك غير بقايا وحطام شعب، وبدل أن يعمل العقيد على لملمتها، ويركز جهده على تعليمها وتنمية عقلها، وعقلنة فكرها وسلوكها،طلع عليها بجنون الجماهيرية، لإيهامها بأنها سبقت العالم كله بطور تاريخي كامل، وأن أحداً لا يشبهها في هذه الدنيا . وقد ترجم هذا في الواقع الحي بإنكار حق أي ليبي في معارضة نظامه أو انتقاده، لأن ذلك يعني أنه يريد إعادة ليبيا إلى الوراء، إلى زمن سابق للجماهيرية، باعتبار أن أي فعل ضد النظام ينطوي، مهما كان تافهاً، على ثورة مضادة ما، عقوبتها الوحيدة الموت الأكيد . هكذا، قلب الأخ العقيد ليبيا إلى ما يشبه مستشفى مجانين . لقد جن هو وأراد للناس أن يجنوا معه، وعاقب كل من لم يجن، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، بأفظع العقوبات، بينما كانت مواقفه تنقلب يومياً من النقيض إلى النقيض، حتى لم يعد أحد يعرف موقفه الحقيقي كي يراعيه أو يتحاشى الاصطدام معه، ويرد عن نفسه العقاب الجماهيري المريع .
وللعلم، فإن الأخ العقيد ركب ذات مرة جرافة وهدم بناية قال إنها سجون ليبيا، التي دأب منذ ذلك على تكرار أنه لم يعد فيها أي معتقل سياسي، ثم تبين بعد سنوات أنه قتل في تلك الفترة بالذات نيفاً وألف سجين أعزل داخل السجون، كما يقتل الذباب، وأن جثث هؤلاء لم تسلم إلى أهلهم كي يدفنوا بالطريقة التي تليق بالكائن البشري حين يلاقي وجه ربه، وإنما تم ldquo;تجييّفهاrdquo;، أي رميها في الصحارى والقفار كي تأكلها الكلاب والذئاب! في مستشفى المجانين هذا، كان ممنوعاً كل ما لا يستسيغه العقيد أو يقره، ومن كان يزور طرابلس، كان يباغت بتأخرها وتخلفها، حتى إن كتاباً عرباً كثيرين وصفوها ldquo;بالمقبرةrdquo;، فهي لا ترسم ولا تغني ولا تصنع أفلاماً ولا مسرحاً ولا ترقص ولا تضحك، بل تقرأ الكتاب الأخضر وتهوبر للثورة، دون أن يكون لها أية مشاركة في خياراتها وقراراتها، مهما كانت تافهة وصغيرة .
مهما يكن من أمر، فإن الأخ العقيد، الذي كان يريد لنفسه أن يكون العدو الأول للغرب في العالم كله، عقد معه صفقات تنضوي تحت بند التفريط الشديد، يتصل بعضها بالنفط، وبعضها الآخر بمحاربة الإرهاب، وآخرها بالهجرة غير الشرعية إلى غرب أوروبا، وبعلاقاته مع العرب وبالدور الفظيع الذي لعبه ودوخهم، حتى لم يعد أحد يعلم إن كان العقيد عربياً أم إفريقياً أم ليبيا أو مواطناً كونياً، كما كان يحب أن يصف نفسه من حين لآخر، ودوخنا جميعنا في صفاته: هل هو ملك ملوك إفريقيا أم إمام المسلمين أم عميد السلك الدبلوماسي العالمي أم البدوي في الصحراء أم منظر العصر الآتي، وأين الجماهيرية من الملكية والإمامة؟ ولعله ليس سراً أن سياساته القومية قامت على ldquo;شرشحةrdquo; العرب وrdquo;بهدلةrdquo; فكرة الوحدة العربية من أساسها، وعلى وضع هؤلاء بعضهم في مواجهة بعض، بدل إقامة مشتركات تقربهم شعوباً ودولاً من بعضهم وأهدافهم .
ما علينا: نشبت الثورة، فارتكب العقيد غلطة عمره، لأنه لم يفهم المتغيرات التي عرفتها المنطقة وشعوبها من جهة، والمواقف العالمية من جهة أخرى . هكذا اندفع للقضاء على خصومه الداخليين معتمداً على ميزان قوى عسكري راجح بوضوح لمصلحته، غافلاً عن أن الصراع لن يحسم بواسطته، بل سيحسمه ميزان قوى جديد، خارجي/دولي مضاد له، هو الذي سيهزمه وإن انتصر على شعبه، وهكذا كان، فبعد أن دخلت قواته بنغازي، وقال ابنه سيف الإسلام إن الأمر حسم والتمرد انتهى، سحقه ميزان القوى الدولي، وها هي طرابلس في الغرب على وشك السقوط خلال الأيام المقبلة، بدل عاصمة الثورة في الشرق، وها هو يهلك والثورة تنجو وتعد نفسها لتسلم السلطة وإقامة الدولة المدنية والديمقراطية المنشودة .
إنها غلطة الشاطر بحق نفسه، سببها غرق الأخ العقيد في ذاتيته وتجاهل الواقع واحتقاره، وتوهمه أنه يستطيع بالعسكر والأمن ملاعبة العالم والضحك عليه وردعه والبقاء في السلطة رغماً عنه . إنها غلطة مزدوجة: في الداخل والخارج، تجلت في الداخل برفضه أي مطلب خاص بشعبه، وحديثه عن قادمين من الخارج أطلقوا الثورة ضده، ينتمون جميعهم إلى تنظيم القاعدة، فلا بد أن يساعده الغرب عليهم . بينما تجلت في الخارج في وهم زين له أن فزاعة القاعدة ما تزال فاعلة، وأنه سيتمكن من تخويف الغرب بواسطتها، وكسبه في النهاية ضد شعبه، من دون أن يلاحظ ما وقع من تحوّل في مواقف العالم وجعله يتخذ قراراً بإنهاء نظامه، لأنه هو الذي ينتج التطرف الإسلامي، وزواله شرط إضعافه .
لكن الشاطر عندما يكون رئيس دولة لا يحق له أن يغلط، لأن غلطته تكون نهائية وتكلفه نظامه وزعامته، خاصة إن كانت مزدوجة . وها هو القذافي يتخبط يائساً محاولاً إنقاذ رأسه قبل نظامه، مع فرص تتناقص يومياً، حتى يمكن القول إن الرجل الغريب ونظامه الأغرب يعيشان أواخر أيامهما، رغم ما تبديه قطاعات العسكر هنا وهناك من مقاومة أخيرة ويائسة . وللعلم، فإن القذافي، بما هو متاح لبلاده من ثروات هائلة وأموال طائلة، كان يستطيع بحد أدنى من الحكمة كسب ود شعبه والعرب والعالم، بدل ترك وطنه في حالة من الرثاثة تذكرني شخصياً بمدن وقرى سوريا قبل نصف قرن! لو كان القذافي قلل بعض الشيء أوهامه، وزاد قليلاً واقعيته، لكان يجلس الآن على شاطيء بحر طرابلس الجميل، مستمتعاً برغد العيش في وطن مزدهر .
منع العقل الاستبدادي الرجل من رؤية واقع بلاده، فحكم على نفسه بالموت، البطيء أول الأمر ثم المتسارع، الذي نعيش نهايته في أيامنا . ترى، هل يتعلم قذاذفة الدول العربية الجدد في ما بقي من مستشفيات مجانين معاني مأساة وتجربة رجل كان ربما أشطر منهم، لكنه لم ينج، لاعتقاده أن أمنه يحميه، وأن من يقهر شعبه يستطيع قهر العالم، وأن شعبه لن يتحرك لأنه خائف، بينما كان الخوف هو الذي حرك في الواقع من تحركوا من العرب . لقد ضيع القذافي نفسه، وسيضيع أشباهه من العرب أنفسهم، ولن ينجو أي منهم، في زمن لم تترك عقليتهم لهم فيه غير التمسك بسياسات وخيارات فات زمانها، هي مقتلهم الأكيد، والوشيك!
التعليقات