عمرو عبدالعاطي


تكشف الوثائق والبرقيات السرية التي نشرها موقع laquo;ويكيليكسraquo; والتي وصل عددها إلى ما يزيد على 250 ألف برقية ورسالة سرية تناقلتها كبريات الصحف العالمية في صدر صفحاتها الأولى، والتي تصدرت التغطيات الإخبارية لكافة الوسائل الإعلامية الأميركية والغربية والعربية على حد سواء عن مدى الخلل الكامن في سياسات الأنظمة العربية، ورغم أن كشف هذا الخلل ليس بجديد، ولكنه هذه المرة توثقه برقيات متبادلة بين دبلوماسيي الولايات المتحدة الأميركية المعتمدين لدى الأنظمة العربية الحليفة لها ووزراء خارجيتهم.
وتتمثل أوجه هذا الخلل في سياسات الأنظمة العربية في الآتي:
أولا: تكشف الوثائق عن بون شاسع بين ما يُقال في الخطب والكلمات والأحاديث الرسمية للقيادات والرؤساء العرب الموجهة إلى شعوبهم، وما يُقال خلف الأبواب الموصدة، وهو ما يُظهر بصورة جلية مدى اختلال شكل العلاقة بين الحاكم والمحكوم في العالم العربي من جهة، وغياب أسس الشفافية والمحاسبية من جهة أخرى. ناهيك عن تهميش الرأي العام العربي وعدم أخذ آراء المواطن العربي بعين الاعتبار عند صياغة السياسات العربية.
تؤكد الوثائق أن الرأي العام العربي لا يُعد أحد محددات صناعة القرار العربي في ظل أن معظم -إن لم يكن كل- الأنظمة العربية فاقدة لشرعية تمثيل مواطنيها لوصولها إلى سدة الحكم بطرق غير شرعية سواء من خلال التوريث أو بانتخابات فاقدة للنزاهة والشفافية.
ثانيا: كشفت الوثائق التي نُشرت عن موقف وتصريحات الرؤساء والملوك العرب فيما يخص أزمة البرنامج النووي الإيراني مدى الفجوات بين ما هو معلن في الخطب، وما يُقال مع المسؤولين والدبلوماسيين خلف الأبواب المغلقة بعيدا عن عدسات وكاميرات التصوير. فقد كشفت الوثائق عن رغبة عربية في التدخل الأميركي للتخلص من البرنامج النووي الإيراني من خلال ضربات استباقية وإجهاضية للمنشآت النووية الإيرانية لتقويض مساعيها لامتلاك أسلحة نووية تؤثر على ميزان القوى المختل عربيا لصالح إسرائيل.
وهذا التوجه العربي يتعارض مع أغلبية الرأي العام العربي الذي يرى في امتلاك إيران لبرنامج نووي وأسلحة نووية في مصلحة الأمن القومي العربي لموازنته القوة النووية الإيرانية، في ظل غياب امتلاك أي من الدول العربية لقوة نووية أو تقليدية تعادل اختلال ميزان القوى لصالح تل أبيب.
فقد أظهر الاستطلاع السنوي لجامعة ميرلاند للرأي العام العربي أن ما يقرب من %57 يرون أن امتلاك إيران لبرنامج نووي يصب في المصلحة العربية.
ثالثا: اصطفاف السياسات العربية مع نظيرتها الإسرائيلية في أن إيران ببرنامجها النووي وسعيها إلى امتلاك أسلحة نووية هو التحدي الجدي أمام منظومة الأمن العربي، وتنحية الممارسات والسياسات الإسرائيلية عن أولى التهديدات الأمنية للنظام العربي وأمنه، وهو ما يحمل في طياته خللا عربيا في فهم تهديدات النظام العربي وأمنه، وكذلك قصر نظر القيادات العربية في معالجة كثير من تلك التهديدات الأمنية، وفقدانها أيضا للنظرة الجماعية لمواجهة مثل تلك التهديدات الأمنية، على عكس كثير من التنظيمات الإقليمية الأخرى في آسيا وأوروبا.
رابعاً: رغم مليارات الدولارات التي تقطعها القيادات العربية من المخصصات المالية للتنمية والخدمات لشراء السلاح من الولايات المتحدة بالأساس، فإنها عاجزة عن مواجهة التهديدات الخارجية بمفردها بل إنها لا تستطيع مواجهتها بمعزل عن الولايات المتحدة الأميركية، في ظل غياب استراتيجية للدفاع العربي المشترك وحرب العراق الأخيرة (مارس 2003) خير دليل على ذلك بالإضافة إلى كثير من الشواهد التاريخية التي تؤكد غياب التوافق العربي بشأن المواجهة الجماعية لتهديدات النظام العربي والتي لا يتسع المقام لذكرها.
خامساً: تكشف الوثائق عن رغبة عربية في إخفاء كثير من الاتصالات والأحاديث بين دبلوماسيي الولايات المتحدة ومسؤوليها وبين المسؤولين والقيادات العربية وكثير من أوجه العلاقات الأميركية العربية والمساعدات التي تقدمها الأنظمة العربية للولايات المتحدة خدمة للمصلحة والأمن القومي الأميركي عن شعوبها في وقت ما زالت العقول والقلوب العربية معبأة بصورة سلبية عن الولايات المتحدة رغم المحاولات الأميركية لتحسين تلك الصورة وكسب القلوب والعقول العربية.
وتهدف القيادة العربية من إخفاء أبعاد العلاقات الأميركية- العربية الحفاظ على صورتها وكرامتها الشخصية أمام شعوبها ومعارضتها الوطنية وحفاظا على مستقبلها السياسي، الذي هو محك من وقت إلى آخر. ففي هذا السياق كشفت أحد الوثائق السرية المنشورة عن رفض الرئيس اليمني علي عبدالله صالح الإعلان عن أن الضربات الأمنية ضد معاقل التنظيمات الإرهابية في اليمن هي ضربات أميركية ولكن الإصرار على الإعلان بأنها ضربات من قبل الحكومة اليمنية ضد المنظمات والعناصر الإرهابية التي تنشط على الأراضي اليمنية، حتى لا يثور الشعب والمعارضة اليمنية ضده.
أخيراً: جاءت كثير من الوثائق والبرقيات الدبلوماسية السرية التي كشف عنها مؤخرا لتؤكد تراجع قضية الصراع العربي- الإسرائيلي من على أولوية قضايا المحادثات بين المسؤولين الأميركيين ونظرائهم العرب، على غير ما تتشدق به كثير من القيادات العربية في تصريحاتها، وهو ما يكشف عن تحول في أولويات العمل والنشاط العربي.
كما أن المحادثات العربية مع النظراء الأميركيين والغربيين بشأن قضايا الصراع العربي- الإسرائيلي لا تتطرق إلى قضايا الحل النهائي لقضية الصراع العربي الإسرائيلي كقضية المياه واللاجئين والحدود وشكل الدولة الفلسطينية المزمع الإعلان عنها، ولكن الحديث يقتصر على حلول قصيرة الأجل وفي الكثير منها حلول تسكينية. ناهيك عن كشفها عن ترتيبات أمنية بين دول عربية وإسرائيل تحقق أهدافا أمنية إسرائيلية بالأساس، وإضافة إلى علم عدد من القيادات العربية بشأن الهجوم الإسرائيلي على حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في قطاع غزة خلال أواخر ديسمبر 2008 ويناير 2009.
وختاما، فإن الوثائق رغم أنها لم تكشف عن جديد فيما يخص الخلل في سياسات الأنظمة العربية وكثير من نقاط الضعف في النظام الإقليمي العربي فإنها أبرزت مدى هذا الخلل في وقت تمر به كثير من الأنظمة السياسية العربية بعديد من الأزمات الداخلية العاصفة التي تهدد مستقبلها السياسي. ومع أن القيادات والأنظمة العربية هي أكبر الخاسرين من الكشف عن تلك البرقيات السرية، مقارنة بالدول التي ورد ذكرها وذكر أسماء مسؤوليها بتلك البرقيات السرية، فإن ذلك لن يمثل نقطة تحول في العلاقات العربية الأميركية تؤثر على قوة ومتانة العلاقات، والخدمات التي تقدمها كثير من الأنظمة العربية للمصلحة والأمن القومي الأميركي في ظل ضعف تلك الأنظمة داخليا وضعف قواها العسكرية لحماية أمنها، مما يجعلها في حاجة ماسة ومستمرة للولايات المتحدة الأميركية ودفع المقابل المستمر لتلك الحاجة الماسة ألا وهو تقديم خدمات لا ترضى عنها الشعوب العربية.