مشاري الذايدي

لم تجف كلمات سعد الحريري مع جريدة laquo;الشرق الأوسطraquo; التي بعث فيها بإشارات إيجابية laquo;جداraquo; تجاه سورية، لدرجة أثارت طمع حزب الله ومن معه بطلب صك براءة من سعد الحريري من دم أبيه والبقية، حتى ردت دمشق التحية laquo;بأسوأraquo; منها، من خلال ما أخبرنا به الجنرال جميل السيد من صدور 33 مذكرة توقيف بحق أسماء، جلها من فريق وحلفاء الحريري، الأب والابن.

ماذا جرى للمصالحة العربية إذن؟!

هذا هو السؤال الذي يتبادر إلى الذهن بعد هذه التطورات laquo;العدوانيةraquo; تجاه فريق الحريري وبقية أركان تحالف laquo;14 آذارraquo;.

ماذا تغير، إيجابيا، في سياسة دمشق تجاه لبنان، إذا كان المطلوب من جملة هذه الخطوات هو ضرب كل فريق laquo;14 آذارraquo; وكل من يملك رؤية مختلفة عن رؤية حزب الله وحلفاء سورية وأتباعها في لبنان تجاه ملفات السلام والحرب والدولة اللبنانية؟ ماذا يراد من جملة هذه الخطوات، بما فيها إطلاق جميل السيد كأداة تشويش سياسي وإعلامي وقضائي، وتليها laquo;ربماraquo;، خطوات أخرى، تتمثل بانضمام السيد نبيه بري، رئيس البرلمان اللبناني، الذي قد يتخذ في المرحلة المقبلة خطوة ذات laquo;بعد تشريعي مفصليraquo;، سيتجلى بإعلان رئيس مجلس النواب نبيه بري أن laquo;المحكمة الدولية غير موجودة قانونيا بالنسبة لمجلس النواب اللبنانيraquo;، مستندا في ذلك إلى أن الاتفاقية الموقعة من الجانب اللبناني بشأن هذه المحكمة لم تخضع لمصادقة مجلس النواب، وقد جرى تمريرها إبان عهد laquo;حكومة لبنانية فاقدة للشرعية الدستوريةraquo; كما دأب بري على وصفها في معرض تأكيد عدم اعترافه، بوصفه رئيسا للبرلمان، حسب تحليل موقع لبنان الآن (NOW Lebanon).

في يناير (كانون الثاني) من العام الماضي 2009، عقدت قمة الكويت والتأم شمل القادة العرب في أجواء ملبدة بالغيوم، وكانت الخلافات الواضحة بين محوري سورية وإيران مع السعودية ومصر وبعض الدول العربية على أشدها، خصوصا في الساحتين اللبنانية والفلسطينية؛ حيث انشطر اللبنانيون والفلسطينيون تبعا لهذا الانقسام الإقليمي العربي، إضافة لأسباب داخلية طبعا، وتحدث كثيرون عن laquo;التشرذم العربيraquo; ووجوب توحيد الصف من أجل الذهاب بموقف عربي موحد تجاه القضية الفلسطينية وملف السلام، ومن أجل laquo;إراحةraquo; لبنان وتحييده عن جبهة المواجهة الإقليمية الكبرى؛ حيث كانت المواجهة الخفية تغلي بين إيران والدول العربية الكبرى، خصوصا بعد الهجمات الإيرانية المنسقة على الجبهات العربية الداخلية (يكفي التذكير بملفي الحوثيين في اليمن، وإثارة النعرات الطائفية في بعض بلدان الخليج)، وفي المقابل كانت إيران، بشكل غير مباشر، تهاجم من تعتبرهم أعداء لها من العرب، بذريعة القضية الفلسطينية طبعا، وهي القضية التي كان العرب فيها دوما بلا أفق ولا رؤية ولا شجاعة قرار، وهذا موضوع آخر.

في ظل هذه الأجواء المكفهرة، عُقدت قمة الكويت، وأطلق العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز مبادرة المصالحة العربية، ومد غصن الزيتون لبقية الفرقاء العرب، من أجل رأب الصدع، ومساندة القضية الكبرى، قضية فلسطين، وأيضا من أجل الإمساك بما تبقى للعرب من أوراق في العراق ولبنان والسودان والصومال واليمن... إلخ.

تفاءل كثيرون بأن تكون الاستجابة العربية، خصوصا من قبل سورية، على مستوى جرأة المبادرة وشجاعة الخطاب الذي تعالى على الجراح، والبعض، وأنا منهم، لم يكن متفائلا بأن تكون الاستجابة بالمستوى ذاته. والسبب واضح، فما بين الخطابين العربيين السياسيين في المنطقة فرق كبير وبون شاسع؛ لأن الخلافات laquo;كثيرة وعميقة الجذور، والفرز مطلقraquo;، كما قالت جريدة السفير اللبنانية نفسها صبيحة اليوم التالي للقمة.

كثير من الصحف اللبنانية القريبة من خط حزب الله أو سورية، أو منهما معا، مثل السفير والأخبار، وحتى بعض الصحف السورية laquo;المستقلةraquo; شككت بالمصالحة حينها، ورأت أنه يجب أن laquo;تبنى على أسسraquo;، حسب جريدة الأخبار اللبنانية، والآن اتضح لنا ما المقصود بـlaquo;الأسسraquo;، أي: الاندراج الكامل في الرؤية التي تمثل فريق حزب الله وحلفاء سورية في لبنان تجاه موضوع المحكمة الدولية لقتلة رفيق الحريري ومن معه، وتجاه وضع سلاح حزب الله، وتجاه التنمية والسلام أو المقاومة والحرب.

مذكرات الجلب السورية هي إشارة سيئة للمناخ المقبل في لبنان؛ فهو مناخ أمني تخويني، يكفي أن يقوده، إعلاميا وشوشرة قضائية، رجل مثل جنرال الأمن في عهد الوصاية السورية جميل السيد.

ليست مذكرات الجلب فقط، بل حتى أجواء زيارة الرئيس الأسد إلى طهران ترسل إشارات بهذا الاتجاه، وتؤكد ما ذكره حسن نصر الله قبل فترة قريبة عن توثق العلاقات وتعمقها بين دمشق وطهران في هذا الوقت بالذات، زيارة الأسد لطهران، تليها الزيارة laquo;الإلهيةraquo; المرتقبة لأحمدي نجاد إلى لبنان، وبالذات مرافق ومربعات دولة حزب الله في لبنان، وهذه هي أيضا إشارات سلبية أخرى.

الخلافات بين سورية وإيران ومن معهما من طرف، والسعودية ومصر ومن معهما من طرف آخر، هي خلافات استراتيجية حقيقية، يجب أن ينظر إليها من هذه الزاوية، لأهل الحكم في دمشق رؤيتهم الخاصة تجاه ما يجري في المنطقة، منذ مفاعيل (11 سبتمبر/ أيلول 2001) وصولا إلى الزلزال الأكبر وهو اغتيال رفيق الحريري (14 فبراير/ شباط 2005) وما تبع ذلك من الهبة الشعبية اللبنانية وlaquo;ثورة الأرزraquo; كما سميت، وإخراج الجيش السوري والوجود الأمني الرسمي له من لبنان، وما جرى في العراق المجاور لسورية، وكيفية التعامل مع إيران، وحزب الله وحماس، في هذه الملفات الكبرى كلها، لدى دمشق رؤيتها وتفسيرها ومصالحها أيضا، ولمصر والسعودية رؤية وتفسير وقراءة ومصالح مختلفة تماما، هل يمكن جسر المسافة بين قمتي الجبل؟ ربما، أو ربما يمكن على الأقل التوصل إلى laquo;حد أدنىraquo; يمكن التوافق عليه، في العراق مثلا، كان هناك، في الفترة الأخيرة موقف سعودي - سوري - مصري متقارب تجاه وحدة العراق وعروبته، وفي اليمن كان الموقف السوري laquo;المعلنraquo; هو مساندة الحق السعودي في محاربة الميليشيا الحوثية على الحدود الجنوبية، لكن في لبنان وفلسطين من الواضح أن هناك laquo;تصادماraquo; في الرؤية السعودية والمصرية مع الرؤية السورية.

من الغلط، طبعا، أن نهمل العامل الأميركي في الأزمة، هو فاعل دولي أكبر، فنمط إدارة الرئيس أوباما للأزمات في الشرق الأوسط نمط غير حاسم، قائم على التسويف والمبادئ الأخلاقية العامة وشراء الوقت، وعدم وجود رؤية واضحة تجاه المخاطر التي تهدد الأمن laquo;من وجهة نظر المخطط الأميركي طبعاraquo;، وهذا، ربما، هو ما شجع الآخرين، وأولهم إيران، على عدم المبالاة، ليس هناك ما يخسر ولا ما يربح من قبل أميركا.. لذلك عادت اللعبة الإقليمية إلى قواعدها التي كانت قبل 11 سبتمبر 2001 وقبل 14 مارس (آذار) 2005 بالنسبة لسورية في لبنان.

نعم، هناك خلافات حقيقية وجوهرية في الرؤية السياسية والمستقبلية للمنطقة، ولا مناص من تقدم إحدى الرؤيتين على حساب الأخرى؛ لأن ما يحدث هو laquo;اختلاف تضاد وليس اختلاف تنوعraquo;، هذا حسب المشهد الآن، ربما يختلف الحال، ربما تأتي معطيات أخرى، ربما تحصل أحداث كبرى تخلط الأوراق من جديد، ربما تتغير ثقافة القرار، ربما تهدأ laquo;القلوب والعقولraquo;.. هنا اعتبارات كثيرة تجعل من الصعب القول laquo;بثباتraquo; الحال وجوهرانيته، ولكن حسب المشاهد فإننا، للأسف، أمام مشهد متوتر وخلاف مقيم وعميق، حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.