سعد الحريري

في خريف 1991، وعندما كنت طالباً في جامعة quot;جورج تاونquot; بالولايات المتحدة، تابعت التغطية الإعلامية لمؤتمر مدريد للسلام، الذي عقد في العاصمة الإسبانية، آنذاك، بعد أن كانت الولايات المتحدة قد نجحت في جمع العرب والإسرائيليين حول طاولة المفاوضات، من أجل وضع نهاية لنصف قرن من الصراع، واليأس، الذي كان من أول ضحاياه شعوب المنطقة، ومن بينها شعب بلدي، لبنان.

وعندما كنت أستعد للقيام بزيارتي الرسمية الأولى كرئيس وزراء للبنان إلى العاصمة الأميركية واشنطن، لم استطع أن أمنع نفسي من التفكير في الثمن الذي دفعه العالم بأسره، منذ أن فشل مؤتمر مدريد للسلام المشار إليه في تحقيق التسوية في الشرق الأوسط، وضمان العدالة للفلسطينيين على حد سواء.
في عام 1991، لم تكن quot;القاعدةquot; ولا فروعها ولا مقلدوها قد وجدوا بعد، غير أن التعصب والإرهاب تغذيا على الغضب، والإحباط، والمآسي، التي خلفها مؤتمر السلام الفاشل في مدريد. فتلك المشاعر جعلت من السهولة بمكان العثور على أناس يائسين، لديهم الاستعداد للإقدام على أعمال يائسة، كما ساعدت المتطرفين على الحصول على جمهور يستمع لما يقولون يتزايد عدده باستمرار من بين العرب والمسلمين وذلك من خلال طرح سؤال واحد لا يتغير: ما الذي نجح المعتدلون، المدافعون عن خيار التسوية من خلال المفاوضات، في تحقيقه حتى الآن؟

كانت الإجابة الحزينة على ذلك السؤال هي: لا شيء. ولكن ينبغي ألا ينخدع أحد بهذه الإجابة: حيث إن ذلك لا يرجع إلى أن المعتدلين -الذين يشكلون الغالبية العظمى من العرب والمسلمين- لم يحاولوا أن يتوصلوا لحل لأن العكس تماماً هو الصحيح. ففي عام 2002 على سبيل المثال، وقع ممثلو العرب الذين يبلغ تعدادهم في العالم 300 مليون نسمة، على مبادرة سلام في قمة عقدت في عاصمة بلادي بيروت. وقد عرضت هذه المبادرة على إسرائيل السلام في مقابل إقامة دولة فلسطينية، وانسحاب إسرائيل من الأراضي السورية واللبنانية المحتلة بعد حرب 6 يونيو (حزيران). وقد تم في ذلك الحين أيضاً تبني هذه المبادرة من جانبquot; منظمة المؤتمر الإسلاميquot; التي تمثل كافة المسلمين في العالم، الذين يبلغ تعدادهم 1.3 مليار نسمة.

ولكن مبادرة السلام العربية لم تلق آذاناً صاغية.. وكانت النتيجة المزيد من الحرب، والمزيد من العنف، والمزيد من الموت، مما ساهم، بالتالي، في توليد المزيد من الغضب، والإحباط، واليأس. وفي الوقت الراهن أقول إنني أكاد أسمع أصوات أصحاب العقول الإجرامية الشريرة، التي خططت للهجمات الإرهابية التي وقعت في نيويورك، ولندن، ومدريد، وهم يقولون لنا: إذا ما كنتم قد أحببتم العشرين عاماً الماضية .. فسوف تحبون العشرين عاماً التالية أيضاًquot;.

والحال أن سلام الشرق الأوسط أصبح في الوقت الراهن قضية عالمية.. والقضايا العالمية، كما هو معروف، تتطلب حلولاً عالمية، كما تتطلب قيادة عالمية في ذات الوقت. ومسؤوليات القيادة العالمية هذه تقع في الوقت الراهن على عاتق الولايات المتحدة. والرئيس quot;أوباماquot; يدرك جيداً أن التطرف يتغذى على انعدام العدالة والمساواة. كما أنه يدرك أن اليأس يمكن أن يُستغل من أجل تحقيق أجندات غاية في البشاعة. ونحن من جانبنا نثني على هذا التصميم الأميركي الذي نراه في الجهود الرامية لاسترداد المصداقية لعملية السلام في الشرق الأوسط.

ويجب، في كل الأحوال، بذل الغالي والنفيس لجعل هذه الجهود تتكشف عن شيء آخر غير الفشل والإخفاق. وهذا يعني أنه قد يأتي وقت عما قريب -لأنني أعتقد أنه لم يعد لدينا الكثير من الوقت مما يمكن أن نضيعه سدى- يصبح فيه من الضروري التحرك من مرحلة الوساطة إلى التحكيم. ومن ضمن المنابر الممكنة للتحكيم: مجلس الأمن الدولي، والأمم المتحدة، وهما منبران تعتبر الولايات المتحدة هي القوة الأكبر فيهما. ولعل المفتاح لبدء هذه العملية هو أن تقوم جهة تحكيم مختصة بتعريف شروط تسوية الوضع النهائي، إذا ما فشل الطرفان المتفاوضان في التوصل لاتفاق حول هذا الأمر.

إن التوصل إلى تسوية بهذه الطريقة قد يحمل في طياته أخطاراً، ولكن تكلفة الفشل المستمر ستكون أكبر كثيراً من ذلك.

ومعالم التسوية السلمية المستدامة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وكذلك بين إسرائيل والعالم العربي والإسلامي، معروفة جيداً، بيد أن المشكلة تتمثل في أن الحكومات المتعاقبة في إسرائيل قد تغاضت عنها اعتماداً على اعتقاد خاطئ مؤداه أن تحقيق التفوق على العرب هو الذي يحقق الأمن. وهو ما لم يكن صحيحاً. فذلك الاعتقاد هو الذي يؤدي، فيما أعتقد، إلى نشأة أشكال جديدة من التطرف المسلح الذي يهددنا جميعاً بدون استثناء.

وبحكم منصبي الحالي كرئيس لوزراء لبنان، من واجبي أن أعمل ما وسعني الجهد على حماية بلدي في هذا الوقت الذي تتزايد فيه التوترات الإقليمية، وتصبح فيه التهديدات أعلى صوتاً.

صحيح أن سكان لبنان لا يشكلون سوى 1 في المـئة فقط من إجمالي سكان العالم العربي، ولكن التنوع الفريد في الأديان على أرضنا، ودورنا التقليدي كمنارة للأمل والتسامح، والديمقراطية والتعايش في المنطقة التي نعيش فيها، يمنح لبنان أهمية خاصة ويجعل تأثيره يتجاوز نطاق حدوده.

وأخيرا، لا يسعني سوى القول إنني أومن إيماناً لا يتزعزع، بأن الأمن الحقيقي يمكن أن يتحقق فعلاً إذا ما تم التخلص من مصادر التوتر والصراع في المنطقة. وهذه، على وجه التحديد، هي الرسالة التي أحضرتها معي عندما جئت إلى واشنطن.

--------

ينشر بترتيب خاص مع خدمة quot;أم. سي. تي. إنترناشيونالquot;