هاشم عبدالعزيز
بمطالب التغيير بدأت، ومن بنغازي انطلقت الانتفاضة الشعبية الجماهيرية السلمية في ليبيا، المتفائلون قدروا أنها ستمضي بذات المسار الذي مضت عليه ثورة التغيير الهائلة في الجوار (مصر وتونس)، ولم يكن هؤلاء يقيمون اعتقادهم على أن ما يجري في المنطقة العربية من زلزال يتنقل من بلد إلى آخر لمجرد العدوى وفي طبعة واحدة، ولكن لأن الأوضاع العربية بالنسبة للشعوب والجماهير، بخاصة القطاعات الشابة قاهرة ولم تعد محتملة، وفي المقابل لم يكن أكثر المتشائمين يتوقعون أن يذهب رد فعل النظام أبعد من استهلاك كل وسائل كتم الأصوات إلى حرب بكامل الأسلحة وتجاه الشعب كله لخطف الأرواح .
وعليه كان النظام كمن يضع نهاية قاتلة لكل شيء في ليبيا، بحاضر على الدمار ومستقبل مجهول، وهي أقرب إلى خاتمة انحدار مضى عليها النظام في حلقات سلسلة متواصلة، وهاكم إشارات إلى بعض من حلقات سلسلة هذا الانحدار بما بات عليه الوضع في هذه اللحظة التي قد لا تكون راهنة بل فارقة .
معلوم أنه في الفاتح من سبتمبر 1969 قاد القذافي عملية انقلابية وصفت في ما بعد بالثورة البيضاء من خلال ldquo;تنظيم الضباط الأحرارrdquo;، حيث تم إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية لتدخل ليبيا مرحلة مزدوجة كانت ldquo;الحالة الثوريةrdquo; حاضرة إزاء قضايا عربية وغير عربية بالعواطف والأمزجة لا بالخيارات التي تفرز الأساس من الاستثنائي وتمضي بخطوات متواصلة في مسيرة تاريخية، وكان المقابل في الداخل الليبي تغييب الدولة تحت مظلة ال ldquo;جماهيريةrdquo; وتصفية الثورة بصورة ممنهجة لتستقر الأمور على نحو عكسي مما كان يطلق من شعارات جذابة .
في فترة يمكن اعتبارها قياسية تراجع القذافي عما كان يعلنه من إيمان وقناعة بالنموذج الناصري الذي أطلقه الزعيم العربي الخالد جمال عبدالناصر لاستعادة نهوض الأمة العربية، وبدأ حقيقة مسيرته بعد تنازلي متسارع إلى الإطار المحلي، ومن ثم إلى الدائرة المناطقية والقبلية متمسكاً بالهوية العشائرية، ولتأصيل هذا الانحدار لم يرفض النمط الحضري وحسب، بل عمد إلى تصفية كبار المسؤولين ومنهم الوزراء المنتمون إلى المدن، وقاد عملية استئثار للوضع على نحو يفوق الملكية من حيث الاحتكار والفردية .
عمل القذافي على تهميش تنظيم الضباط الأحرار الذين كان عددهم 80 عضواً، وتخلص من القيادة الجماعية التي كانت تتمثل بمجلس قيادة الثورة المكون من 12 عضواً بقرار حله عام ،1977 حيث لم يبق منهم سوى 3 يشغلون مواقع هامشية، وهم الفريق أبوبكر يونس جابر والرائد الخويلدي الحميدي واللواء مصطفى الخروبي، وإذا ما أضفنا إلى هذا أن تصفية مجلس قيادة الثورة جرى باتباع أساليب مختلفة، إذ إن الأوائل محمد نجم ومختار القروي استقالا عام 1972 بعد رفض القذافي تسليم السلطة للمدنيين خلافاً لما كان الضباط تعهدوا به، ثم كرت السبحة، وفي نفس العام قضى محمد المقريف في ظروف غامضة، ثم جرى قتل بشير الهوادي وعوض حمزة عام ،1975 وعمر المحبشي عام ،1984 وانشق عبدالمنعم الهوني طيلة ربع قرن قبل أن يتصالح مع القذافي .
هذا ldquo;التعاملrdquo; مع ال ldquo;رفاقrdquo; توافق بإحلال القذافي لأبنائه في قيادات الوحدات العسكرية والأمنية الأحدث تسليحاً والأعلى كفاءة وهم الساعدي والمعتصم ومحمد وخميس، وهذا الاتجاه الاستئثاري ارتبط بتضييق وخنق الحريات، إذ العمل الحزبي محرم والجمعيات القليلة مقيدة والصحافة مسيطر عليها من النظام، وفي الإجمال صار الاستبداد ينتج معارضات من كل الأطياف والألوان .
السؤال الآن: هل جاء إطلاق الانتفاضة الليبية الشعبية الجماهيرية السلمية قبل أوانها؟ أم دون الإعداد المناسب لها؟ أم أن المسألة ترتبط بخلفية الوضع الليبي القبلي؟ أم أن الأمور تعود إلى طبيعة النظام؟
ربما كانت كل هذه القضايا واردة، غير أن الأساس الفاعل في مجريات الأحداث الجارية كما يشير إليها العديد من المحللين هي أنه ldquo;مع اتجاه النظام إلى كتلة أسرية استأثرت بمقدرات الاقتصاد وبمراكز القرار في الدولة وبالمواقع الحساسة في المؤسسة العسكرية بات التغيير في ليبيا أعقد وأغلى ثمناً منه في جارتيها تونس ومصر، فإذا كان الجيش دعم الثورة في تونس وحماها في مصر، فإن الجيش الحقيقي في ليبيا الذي يملك التجهيزات المتطورة والتسلح الأحدث والتدريب الأكثر فعالية ليس الوحدات المتمردة التي تخلت عن القذافي وإنما الألوية الأمنية التي يقودها أبناؤه والمتمترسة داخل قاعدة باب العزيزيةrdquo; .
ولكن إلى ماذا ستفضي في النهاية حرب نظام على شعب بدأ النهوض في وجه الاستبداد؟ هذا هو السؤال الذي يسطر الليبيون بدمائهم إجابته في وجه النظام طالت الأيام أم قصرت .
التعليقات