أسامة عبد الرحمن

لا شك أن اضطرار الثورة الشعبية في ليبيا إلى الدفاع عن نفسها في مواجهة آليات البطش والقمع التي استخدمها النظام الليبي في مواجهتها ومحاولة سحقها قد غيّر مشهدها الذي بدأت به، الذي حرصت على الحفاظ عليه، ثم إن اضطرارها إلى طلب العون من الخارج الذي تمثل في قرار عربي، ثم قرار أممي بفرض حظر جوي لحماية المدنيين بعدما كاد النظام الليبي أن يطبق عليها، قد أضاف بعداً دولياً في تغيير مشهدها السلمي، ربما لو تعامل النظام الليبي معها على أساس حضاري، أو منطقي باعتبارها تظاهرة سلمية تنبذ العنف وتحاول أن تعبر عن مطالبها بأسلوب حضاري وسلمي، لما آل الأمر إلى ما آل إليه .

معروف أن أي نظام قمعي مستبد يطمس حرية التعبير، كما يطمس غيرها من الحريات، وليس لها مكان من الإعراب في منهجه القائم على انتهاك الحقوق والحريات . لذلك لم يكن مستبعداً ذلك البطش والقمع الذي مارسه النظام ضد تظاهرات سلمية .

إن اضطرار الثورة الشعبية إلى الاعتماد على بعض الأسلحة الخفيفة التي يملك بعض أفرادها القدرة على استخدامها، وكذلك على بعض أفراد القوات المسلحة الذين انشقوا على النظام وما غنموه من أسلحة من المخازن التي كانت في مناطق سيطر عليها الثوار، جعل المشهد يبدو حرباً بين فريقين، وإن لم يكن هناك توازن في القوى، والحرب بين فريقين غيّر المشهد كثيراً، فلم يعد مشهد تظاهرات سلمية وتوارى المشهد السلمي تماماً خلف دخان القصف المدفعي والصاروخي والكر والفر والتقدم والتقهقر .

هكذا غاب المشهد السلمي، كما غابت معه المطالب السلمية النبيلة، أو بمعنى أدق، بدأ مسار الثورة مساراً مختلفاً، وبدا الأفق ضبابياً أو مسدوداً، وجاء دخول دول كبرى على الخط لفرض حظر جوي حماية للمدنيين، بقرار عربي، ثم بقرار أممي، ليضيف ضبابية أكثر وانسداداً أكبر في الآفاق، وليضيف بعداً جديداً، دوّل المشهد بعدما كان وطنياً . وحاول النظام أن يستثمر هذا الدخول الدولي باعتباره عدواناً، وأنه ضحية هذا العدوان، متجاهلاً أن الثورة الشعبية السلمية والمدنيين في ركابها كانوا ضحيته، وهو بهذا السياق، دشّن حضور التدخل الدولي .

كانت الثورة الشعبية في ليبيا من إفرازات ربيع عربي سلمي متطلع إلى الحرية، ومتمسك بنهجها السلمي، ويحرص عليه، وما أرادت أبداً أن يؤول مشهدها السلمي على الساحة إلى ساحة حرب بين فريقين في الداخل، أو ساحة تدخل خارجي . فما الذي كان بإمكانها أن تفعله للإبقاء على المشهد سلمياً من دون انزلاق إلى حرب بين فريقين في الداخل أو تدخل خارجي .

ربما يرى كثيرون أنه لم يكن بإمكانها فعل شيء، وأن دائرة الفعل خرجت من يدها . ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه في اللحظة التاريخية الراهنة، هل بالإمكان أن يعود المشهد إلى صورته الأولى السلمية الناصعة، أم أن ذلك أمر تجاوزته الأحداث، أو ألغته الأحداث؟

ربما يرى البعض أن هناك أملاً في عودة الثورة الشعبية إلى مسارها، طالما كانت منبثقة من إرادة جادة وصلبة ومصممة على الوصول إلى غاياتها، ولو قدمت في سبيل ذلك أغلى التضحيات .

قد يكون ذلك صحيحاً، ولكن الضبابية تطبق على الظرف التاريخي الراهن، والمشهد المعتم على الساحة الليبية قد يطول أمده .