رشيد الخيّون


لا أظن أن شخصاً شغل الإعلام العالمي مثل أُسامة بن لادن منذ 1998، وها هو يشغله بعد مماته. أحد الصحافيين العرب رأى بمقابلته لبن لادن أنها ذروة المجد. هذا الصحافي وأضرابه اعتبر مقاتل العراقيين أمام أفران الخبز ووسط الأسواق، وكل ما اعترفت بها quot;القاعدةquot; مِن سفك دماء، أنها مقاومة. أقول: ربما فكر قاتلو بن لادن بعواطف عشاقه، فكم مِن ضريح أخذ يُزار وتُقدم له النذور بعد أن أعطب الزَّمن الذاكرة، ونسي إيذاء صاحبه وقسوته، ومَن يدري فسيكون أمثال بن لادن والزَّرقاوي أصحاب كرامات، فاختير الماء قبراً حيث لا تشيد الأضرحة.


لعب بن لادن بالقلوب والعقول، لكن عداءه لأميركا لن يسدل الستار على الأنفس البريئة التي أزهقها تنظيمه. كان هناك أعداء لأميركا أكثر شدة مِن بن لادن والظواهري إلا أنهم لم يتورطوا بدماء أطفال، كانوا يجابهون الجيوش، طلباً لما اعتقدوه حقاً، وجهاً لوجه، لم نجد لهم ورطة بقتل الأبرياء مثلما تورط به بن لادن ورفيقه الزَّرقاوي (قُتل 2006)! ومع ذلك كان بن لادن مؤمناً لا منافقاً في ما نافح مِن أجله، ولا ندري هل يُعد ممَن طلب الحق فأخطأه؟! حسب مقولة الإمام علي بن أبي طالب (اغتيل 40 هـ): quot;لا تقاتلوا الخوارج بعدي فليس مَن طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركهquot; (نهج البلاغة). وخطأ الحق لا يسفر إلا عن باطل، هذا ما ترجمته ممارسات quot;القاعدةquot; في دفع الشباب إلى الموت وهم عميان العقول قبل العيون في سبيل ما ظنوه حقاً في محاربة أميركا وإشادة ما سعوا إليه.

أخذ تنظيم quot;القاعدةquot; يبرر قتل الأبرياء بعذر التترس، وهي فتاوى وردت في تراث شيوخ كبار مثل ابن تيمية (ت 728 هـ) الذي قال: quot;إن الكفار لو تترسوا بمسلمين، وخيف على المسلمين، إذا لم يقاتلوا: فإنه أن نرميهم ونقصد الكفار. ولو لم نخف على المسلمين جاز رمي أولئك المسلمين أيضاً في أحد قولي العلماء. ومَنْ قُتل لأجل الجهاد... كان شهيداًquot; (النجدي، مجموع فتاوى شيخ الإسلام). اعتمدت مثل هذه الفتوى مِن قِبل quot;القاعدةquot; بالذات، ونفذت في مئات المصلين بينهم مطلوب لـquot;القاعدةquot;، أو أطفال تجمعوا صباحاً حول حافلة المدرسة، أو تجمعوا وأمهاتهم عند حوض ماء. لقد خرجت تلك الممارسة حتى على الفتوى نفسها، حيث قصدت محاربة المغول في حينها، إلى ما عُرف بالبراء والولاء مثلما استخدم ذلك نافع بن الأزرق الخارجي (قُتل 65 هـ) في أطفال المخالفين.

ومع ذلك هناك في فتاوى ابن تيمية، ما لم نسمعه مِن بن لادن ورفاقه وهم يقرون بمشيخته، فتراثه حمال أوجه أيضاً، فهو إذ مال إلى الشِّدة في قتل الأبرياء بذريعة التترس، نجده في مكان آخر من فتاويه يميل إلى الرقة والدعة والرِفق ويستشهد بنصوص دالة. مثل: quot;قال النَّبي: ما كان الرِفق في شيء إلا زانه، ولا كان العنف في شيء إلا شانهquot;. وquot;إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله، ويعطي عليه ما لا يُعطي على العنفquot;. وهو الناقل الأثر الشائع: quot;الله جميل يحب الجمالquot; (مجموع فتاوى شيخ الإسلام).

مثلما لم يظهر بعد بين المتطرفين الإسلاميين المعاصرين مغالياً في الدِّين مثل رموز quot;القاعدةquot;؛ كذلك لم يُعثر على متطرف بين الشُّراة (الخوارج)، أكثر عنفاً مِن ابن الأزرق. فالرَّجل كان يتخذ مِن الكتاب سنداً، شأنه شأن السلفية الجهادية اليوم، وإن كان النص قصة خارج المحكم، فحينما اعترض عليه رفيقه نجدة بن عامر (قُتل 69 هـ) لأمره بقتل أطفال مخالفيه، أجابه ابن الأزرق محتجاً: quot;أما أمر الأطفال فإن نبي الله نُوحاً، عليه السلام، كان أعلم بالله يا نجدة مني ومنك، فقال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا (نُوح: 26 -27). فسماهم بالكُفر وهم أطفال، وقبل أن يولدوا، فكيف كان ذلك في قوم نُوح ولا نكون نقوله ببني قومنا! والله يقول: كُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ. وهؤلاء كمشركي العرب، لا نقبل منهم جزية، وليس بيننا وبينهم إلا السَّيف أو الإسلامquot; (المُبرد، الكامل في اللغة والأدب). فانظروا كيف تصرف أولئك وهؤلاء بالكتاب!

ظهر أكثر مِن ابن الأزرق جيلاً بعد جيل، مثل النَّزاريين جماعة حسن الصَّباح (ت 518 هـ)، واعتمدوا الغيلة سبيلاً في المناجزة، وحتى ظهور quot;القاعدةquot; رفع الجميع الدِّين شعاراً، وأن الجنة ثمناً لمَن يُقتل محارباً عدوهم بين أيديهم، حتى وصل تسفيه العقل إلى إنجاز مهمة الانتحار بفرح وسرور، ذلك هو الحشيش المخدر. ليس هناك سوى فكرة الموت مِن أجل الجنة، بما يثير العجب مِن التزهيد بالحياة. في سيادة ثقافة الموت والخراب يتحول القاتل مناضلاً مجاهداً بينما يصبح رجل مثقف مثل مصطفى العقاد، المقتول بأفكار quot;القاعدةquot; بعمان 2005، أو كاتب بحجم نجيب محفوظ (ت 2006)، أو أطباء غربيون اتخذوا من القرى اليمنية منازلَ لعلاج المرضى، كفاراً عملاء!

نعم، هناك مَن أقام مجلس فاتحة على حياة قاتل عشرات الأبرياء الزَّرقاوي، ومدت الولائم أعراساً بالمَقاتل التي خطط لها أو نفذها، وها هو الحديث عن بطولة بن لادن وأمجاده، جارياً على أفواه مَن لم تهز دماء الأطفال لهم قصبةً. فكم تبدو الصورة شوهاء عندما يُجادل في ثقافة الموت الأسود على أنها الحرية الحمراء، حتى ربط أحدهم مجده الصحافي بقتل أطفالنا وقطع رؤوس الجنائز، ومعلوم أن فاجعة الموت تتضاعف عندما تُرى الجثامين بلا رؤوس، كل هذا فعلته quot;القاعدةquot; وميليشيات الموت الأُخر داخل العِراق.

أما بن لادن وأترابه فلم يقتص منهم ضحاياهم إنما قتلوا بسلاح أصحابهم الأوائل، ولسنا شامتين بقتلهم لكن الدوائر تدور، وقد يحسب لهم مَن يريد أنهم طلبوا الحق، وفقاً لدعوتهم، لكن أليس خطأه كان الباطل بعينه، فدماء الأبرياء ثاغبة تسأل الحق أيضاً. ولنكن جبريين في تلك اللحظات، على حد بيت المتنبي (قُتل 354 هـ):

ألا لا أُري الأَحداث مَدحاً ولا ذمَّاً.. فما بطشها جهلاً ولا كفها حِلماquot;!