عمر عبداللطيف

خرجت السيدة بثينة شعبان مستشارة الرئيس الأسد، يوم الاثنين 9 مايو، وعبر صحيفة laquo;نيويورك تايمزraquo; -التي من المفترض أنها صحيفة تتبع لدولة تتآمر على سوريا- خرجت لتقول إن المرحلة الأخطر في سوريا قد انتهت، وإنها كلفت بفتح محادثات مع معارضين، معلنة أن لقاءها مع عارف دليلة وميشيل كيلو ولؤي حسين، ما هو إلا بداية لحوار وطني. في حين صرح رجل الأعمال السوري رامي مخلوف، ولنفس الصحيفة ndash;ولا ندري هنا بأي صفة يتحدث السيد مخلوف؟ndash; أن الأولوية في سوريا هي للإصلاح الاقتصادي وليس السياسي، وأنه سيخوض المعركة حتى النهاية، فهو يملك الكثير من المقاتلين.
من خلال هذا التضارب والتناقض في التصريحات، ومن خلال ما يجري على الأرض، يبدو وبشكل واضح أن النظام السوري ما زال حتى هذه اللحظة مصراً على التعامل بعقلية أمنية مخابراتية عسكرية، مع المظاهرات السلمية المطالبة بالحرية والكرامة. وما كل الوعود بالإصلاحات التي أطلقها المسؤولون السوريون إلا لكسب الوقت والمراهنة على قمع الانتفاضة السورية، انتفاضة الكرامة المسلوبة.
ليس غريبا على النظام أن يتعامل بهذا الأسلوب مع مظاهرات سلمية حضارية تطالب بحقوقها العادلة والمشروعة، فهو لا يعرف ndash;كعادته منذ عشرات السنينndash; إلا القمع كوسيلة وحيدة في التعامل مع مطالب الشعب.
عقلية الثمانينيات هي نفسها العقلية التي تدير الأزمة الحالية في سوريا. وما يحدث في درعا وحمص وبانياس هو خير دليل على كلامنا، رغم أن المطالب غير المطالب والزمان غير الزمان.
النظام السوري حتى الآن لم يعترف بوجود أزمة أصلا، كما أنه مصرّ على تجاهل أصوات مئات آلاف السوريين، تلك الأصوات التي سمعها العالم كله وهي تنادي بالحرية والإصلاح، إلى أن يئست وأطلقت شعارها بإسقاط النظام، النظام الذي لا يعرف إلا نظرية المؤامرة.
نظرية المؤامرة هي شماعة النظام الدائمة والأبدية، التي يخوّن عبرها كل صوت ينادي بالحرية، وزج من خلالها بكل معارضيه في السجون والمعتقلات، بحجة وهن نفسية الأمة وإضعاف الشعور القومي. وها هي اليوم أجهزة إعلامه تخوّن كل من يبدي رأياً مخالفا فيما يحدث بسوريا، فتحولت تركيا إلى laquo;طرف في المؤامرةraquo;، وتحولت كل أجهزة الإعلام ووكالات الأنباء العريقة إلى laquo;مغرضة وفاقدة للمصداقيةraquo;. كما تحولت كل المنظمات الحقوقية إلى منظمات تديرها الإمبريالية، بينما كانت الحكومة السورية تهرول لحجز مقعد لها في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، قبل أن تتبادل فرصة الترشح مع الكويت، بعد أن أبعدت بسبب المجازر التي ارتكبتها قوات الأمن السورية بحق المتظاهرين العزل.
المؤامرة الآن أُلصقت بالسلفيين، وها هو أحمد الصياصنة إمام المسجد العمري بدرعا، والذي كان في حضرة رئيس الجمهورية بالأمس، يتحول اليوم إلى زعيم لتيار سلفي يريد أن يجعل من درعا منطقة مستقلة عن سوريا، وآخر يريد جعل حمص laquo;إمارة سلفيةraquo; لولا أن قوات الأمن اعتقلته خلال محاولته الهروب بطائرته الهليكوبتر الخاصة!!
أي عقل هذا الذي سيقتنع بهذه الترهات؟ فمن المعروف للقاصي والداني، أن النظام السوري يخترق المجتمع السوري ويتغول فيه إلى أعمق الأعماق. وعندما حاول النظام مستخدما أحد laquo;شيوخ مخابراتهraquo; إثارة الفتنة مع أهالي السويداء، تصدى علماء درعا laquo;للشيخ المخابراتيraquo;، متبرئين منه ومن أقواله التي يتحمل مسؤوليتها هو وأجهزة الأمن التي استخدمته.
ثم لماذا تريد جماعة سلفية استهداف سوريا laquo;لمواقفها القوميةraquo;؟ كيف يحارب السلفيون سوريا بسبب مواقفها laquo;الممانعةraquo;؟ وكيف يحارب السلفيون سوريا لعلاقاتها المتينة مع حركات المقاومة؟ كيف يستطيع العقل تفسير هذه الأحجية؟
الكل يعرف أن سوريا دولة أمنية بامتياز، وتتفوق على مثيلاتها في مصر وتونس من ناحية تضخم الأجهزة الأمنية وشراستها، هذه الأجهزة التي لا دور لها إلا مصادرة الحريات العامة، والتجسس على الناس، والتهليل والتطبيل بحياة قائد الأمة وسيد الوطن.
أي وطن هذا الذي تهان فيه كرامة الإنسان، وتقصف فيه بيوت الآمنين، وتنتهك حرمات البيوت، وتنهب المنازل في وضح النهار، ويقتل شبابها ورجالها وتثكل نساؤها.. أي وطن هذا الذي يقنص فيه طبيب أو مهندس، فقط لأنه نادى بالحرية والإصلاح؟
بعد استشهاد أكثر من 800 شهيد، يخرج المسؤولون السوريين ليتحدثوا عن الحوار، وآخر ما قيل في هذا الصدد، تصريحات وزير الإعلام عدنان محمود يوم الجمعة الماضية ndash;جمعة الحرائرndash; حيث أعلن عن نية النظام فتح حوار وطني شامل في كل المحافظات السورية. لكن هذه التصريحات تتناقض للأسف مع ما يجري على أرض الواقع، وتأتي في وقت يقبع فيه أكثر من ثمانية آلاف معتقل ومفقود في السجون والمعتقلات، عدا عن اعتقال النشطاء السياسيين والحقوقيين، ليس آخرهم نجاتي طيارة في مدينة حمص.
من يريد الحوار والإصلاح، لا يفتح النار على النساء، كما حصل في المرقب قرب بانياس. من يريد الإصلاح لا يدوس على رقاب الناس والعلم الوطني وعلى صور المجاهدين أمثال صالح العلي وسلطان باشا الأطرش كما فعلت عناصر الأمن في محافظة السويداء، التي رفعت تلك اللافتات احتفالا باليوم الوطني، احتفالا بتحرير سوريا من المحتل الأجنبي.
من يريد الإصلاح لا يقحم دبابات الجيش السوري، في المدن والبلدات لمحاصرتها وقطع الماء والكهرباء عن الناس المسالمين.
وفوق كل ذلك، تدعي وسائل إعلام السلطة أن المظاهرات بالعشرات، ويبث التلفزيون السوري الرسمي مشاهد تشير إلى أن الحياة طبيعية في المحافظات السورية، بينما حملة القتل والبطش والاعتقالات قائمة على قدم وساق في كافة المحافظات، حتى اكتظت السجون، وباتت المدارس والملاعب سجونا جديدة للمتظاهرين العزل، الذين تهان كرامتهم ويمارس بحقهم أفظع أبشع أنواع التعذيب والتنكيل.
خروج الناس للتظاهر ليس هواية أو رياضة، ومن يخرج ليتظاهر مطالبا بحقوقه المشروعة، يدرك جيدا أنه قد لا يعود إلى منزله، لأنه قد يعتقل أو يستشهد.
مر أكثر من شهرين والشعب السوري يصرخ بأعلى صوته laquo;الله، سوريا، حرية وبسraquo;، ترى كم جمعة يحتاج النظام ليفهم ويعي مطالب الناس. لهؤلاء الناس حقوق ومطالب يريدون تحقيقها، هؤلاء الناس ملوا من نفس الوجوه، نفس التهم، نفس المؤامرات، نفس الكذب، ونفس الوعود.
الشعب السوري قال كلمته، ومن خرج وهتف laquo;ما في خوف بعد اليومraquo;، لن يقبل على الإطلاق بأن يعود الزمن إلى الوراء، لن يقبل أن يعيش مجددا في حالة الرعب والخوف والكبت والقهر والذل، التي مورست عليه على مدى أكثر من أربعين عاما.
سوريا قبل 15 مارس تختلف عن سوريا بعد 15 مارس، وعلى النظام أن يعي ذلك جيدا قبل فوات الأوان (هل يوجد وقت؟). يجب التجاوب بشكل فوري مع مطالب الناس، من خلال فتح حوار شامل تشارك فيه كل القوى والتيارات الوطنية بلا استثناء، إضافة إلى لجنة تمثل الشباب المتظاهرين، وقبل كل ذلك على النظام إبداء حسن نيته بإجراء حوار جدي، من حيث خلق مناخ حقيقي للحوار يتمثل بالإفراج عن كافة المعتقلين السياسيين، ومحاسبة جميع المسؤولين عن قتل الناس مهما كان منصبهم، وعدم التعرض للمتظاهرين من قبل عناصر الأمن، والسماح لأجهزة الإعلام بتغطية المظاهرات، وسحب الجيش والقوى الأمنية من جميع المدن والقرى، ثم يمكن للمتحاورين حينئذ الاتفاق على نقاط محددة تنتقل بالبلد إلى مرحلة التعددية والديمقراطية.
وبغير ذلك لن تستطيع سوريا تجاوز الأزمة، وستكون النتائج وخيمة على سوريا بأكملها، لأن الشعب السوري لن يتراجع ولن يصمت على الظلم بعد اليوم، الشعب السوري صبر لأكثر من أربعين عاما، وهذا يكفي.