أكرم عبدالرزاق المشهداني

تنعقد حالياً بالدوحة أعمال المؤتمر الإقليمي حول المحكمة الجنائية الدولية برعاية حضرة صاحب السمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني أمير البلاد المفدى الذي ألقى سموّه كلمة في الافتتاح شدّد فيها على أهمية قمع جرائم العدوان والإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وتقديم مرتكبيها للعدالة حفاظاً على الأمن والاستقرار العالميين واحتراما لكرامة الإنسان وحقوقه المشروعة. ونوَّه سموّه بالتعامل بحزم مع تلك الجرائم عن طريق المحاكم الجنائية الدولية الخاصة في كل من جمهورية يوغسلافيا السابقة ورواندا وكمبوديا وسيراليون مؤكداً أن تلك التجارب قد أضافت إرثاً قانونياً لا يستهان به في هذا المجال. وطالب سمو الأمير بأهمية الإقرار بأن النظام الأساسي للمحكمة لا يتسع للعديد من الجرائم الجسيمة والتي وقفت المحكمة أمامها عاجزة عن تحقيق العدالة كتلك الجرائم التي ارتكبت وما زالت ترتكب في حق المدنيين تحت الاحتلال في قطاع غزة. ونبّه إلى أن السلطة الممنوحة لمجلس الأمن الدولي في تفعيل أو إيقاف عمل المحكمة قد تتنافى مع الاستقلال الواجب للمحكمة في أداء عملها، مشدداً سموّه على ضرورة الالتزام بالمقومات الأساسية للعدالة الجنائية سواء محلية أم دولية ومن أهمها الحيدة والمساواة أمام القانون والمحاكمة المنصفة.
إنّ المحكمة الجنائية الدولية بلا شك تُعدّ من أهم إنجازات المجتمع الدولي على طريق تحقيق العدالة الناجزة التي لا اعتبار فيها للقومية أو الإثنية أو الدين والتي تكون سنداً أساسياً لارتقاء المجتمع الدولي والحضارة الإنسانية نحو العدالة. وهي أول هيئة قضائية دولية تحظى بولاية عالمية ولزمن غير محدد، لمحاكمة مجرمي الحرب، ومرتكبي الفظائع ضد الإنسانية، وجرائم إبادة الجنس البشري، فالمعلوم أن قانون روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية تم تبنيه من قبل (120) دولة وعارضته (7) دول بينها أميركا وإسرائيل، وامتنعت (21) دولة عن التصويت. وقد شاركت الدول العربية في جميع مراحل التفاوض لإنشاء المحكمة، وعبرت الوفود العربية عن عدم رضاها عن الدور الذي مُنح لمجلس الأمن في النظام الأساسي للمحكمة وكذلك بسبب عدم إدراج جريمة العدوان، وكانت (13) دولة عربية قد وقعت على نظام روما بإنشاء المحكمة، هي الأردن والإمارات والبحرين والجزائر وجيبوتي والسودان وسوريا وعمان وجزر القمر والكويت ومصر والمغرب واليمن، إلا أن 3 منها فقط صادقت عليه وانضمت للنظام وهي (الأردن، جيبوتي، جزر القمر) ولم توقع 7 دول عربية هي قطر، لبنان، العراق، السعودية، ليبيا، تونس وموريتانيا على الاتفاقية.
وفي 1/7/2002 أصبحت المحكمة الجنائية الدولية هيئة قضائية جنائية دائمة مستقلة أوجدها المجتمع الدولي لمقاضاة مرتكبي أشد الجرائم المحتملة جسامة بمقتضى القانون الدولي، وهي حسب المادة (5) من نظامها الأساسي هي (جريمة الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، وجرائم العدوان).
ومن الجدير بالتنويه أن العديد من الدول الكبرى بما فيها بعض أعضاء مجلس الأمن الدولي الدائمين، عارضوا إنشاء نظام المحكمة الجنائية الدولية أو تحفظوا عليه أو لم يصادقوا حين وقعّوا، وبعد أن فشلت الولايات المتحدة في ثني المجتمع الدولي عن المضي في طريق تأسيس محكمة دولية جنائية دائمة، اضطرت إلى التوقيع في اللحظات الأخيرة قبيل إغلاق باب التوقيع في يوم 31/12/2000 لكنها بعد ذلك امتنعت عن التصديق، وعبَّر السفير الأميركي ريتشارد بروسبر عن معارضته الشديدة أمام الكونغرس حين قال laquo;إن الولايات المتحدة لا يمكنها أن تدعم محكمة لا تملك الضمانات الضرورية لمنع تسييس العدالةraquo;. ثم قامت الولايات المتحدة بخطوة غريبة، حين أعلنت انسحابها من معاهدة روما في رد فعل غاضب يعكس حراجة الموقف الأميركي خصوصاً أن دول الاتحاد الأوروبي كانت داعمة لتأسيس محكمة روما، وكذلك فعلت إسرائيل.
إن عقد المؤتمر الإقليمي للمحكمة الجنائية الدولية في الدوحة لا يعني الانضمام إلى عضوية المحكمة. علما بأنّ الدول العربية حين أسهمت بقوة في مفاوضات إنشاء المحكمة، كان يحدوها الأمل في أن يتم إنشاء محكمة عادلة حقيقية تدافع عن المظلومين وتحاكم مرتكبي جرائم الحرب والعدوان والإبادة والجرائم ضد الإنسانية، خاصة أن العرب هم أكثر الأمم تضررا من العدوان والاستعمار، إلا أنها اصطدمت في الواقع بأمور أدرجت في النظام لا تعبر عن الحيادية والعدالة وبخاصة: إقحام مجلس الأمن (وهو هيئة سياسية) في أمر أو اختصاص قضائي، وحيث أصبح من الواضح لدى معظم الدول بأن نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية، والذي تم وضعه كاتفاقية دولية لكي يحكم العلاقة بين أطرافه المنظمين له، ينطوي على عدد من الاختصاصات والآليات التي تمكنه من سحب اختصاصه على دول غير أطراف فيه، وهو ما يعني أن رعايا الدول غير الأطراف في نظام المحكمة المذكورة لن يكونوا في مركز قانوني أفضل من رعايا الدول التي هي طرف في هذا النظام، إذ إن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية يمكن أن يمتد ليشمل رعايا دول غير أطراف في نظام روما الأساسي وذلك في حال ارتكابهم لإحدى الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة في دولة طرف، أو على متن طائرة أو سفينة مسجلة في تلك الدولة، أو إذا أحال مجلس الأمن، متصرفاً بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، حالة يبدو فيها أن جريمة أو أكثر من الجرائم التي ورد النص عليها في المادة (5) من نظام روما الأساسي قد ارتكبت (م 13/ب). ولعل قضية دارفور هي أبرز ما أسفر الواقع عنه في الساحة الدولية تطبيقا لهذا الاختصاص.
كثير من الفقهاء العرب اليوم يرون أن بقاء الدول العربية خارج إطار نظام إنشاء المحكمة الجنائية الدولية ليس في صالح العرب، ذلك أن غياب أي دولة عن مظلة الانضمام لهذا النظام لن يحول دون سريان أحكامه عليها، كما في قضية دارفور، ثم إن هذا الغياب سوف يحرمها من المشاركة في صياغة أو تعديل أو المحافظة على المكاسب المتحققة في صياغة مواد نظام روما، وذلك على أقل تقدير، من خلال جمعية الدول الأطراف، كما أنه من الممكن أن يُستَغلّ غياب الدول العربية، أو عدم صلاحيتها للتصويت، في إدراج تعديلات على نظام روما الأساسي يضرّ بها مستقبلاً أو يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية، إذ إن أي دولة ليست طرفاً في نظام روما لن يكون لها حق التصويت أو المشاركة كعضو في تعديل أو إعادة صياغة مواده أو المحافظة على المكاسب المتحققة من قبلها في صياغة النظام الأساسي للمحكمة. وإذا كان موضوع تعارض النظام الأساسي مع الدساتير التي تمنح الحكام حصانة مطلقة، فإن كثيرا من الدول الأوروبية ومنها فرنسا تنص في دستورها على حصانة رئيس الدولة من المساءلة، ومع ذلك صادقت فرنسا على قانون المحكمة، أما مسألة تدخل المحكمة الدولية في اختصاص القضاء الوطني فإن هناك (مبدأ التكامل) الذي تسير عليه المحكمة والذي ينص في م/99 من النظام الأساسي للمحكمة على عدم تدخل المحكمة الدولية إلا في حالة عجز القضاء الوطني.
واليوم وبعد أن بلغ عدد الأقطار المصادقة على نظام المحكمة (115) دولة، فإن بقاء الدول العربية خارج نطاق المحكمة أمر لا يمكن أن يستمر، ويتطلب إعادة الدراسة، وإدراك طبيعة الظرف الدولي، وما يتطلبه من اتخاذ مواقف متوازنة، منسجمة مع التطور الدولي ومع متطلبات حماية مصالح دولنا وشعوبنا، والاستعداد للتعاطي مع المتغيرات والمستجدات وتوظيفها بشكل مناسب خدمة للمصالح العربية والإسلامية العليا. على العرب أن يعيدوا النظر في موقفهم من المحكمة الجنائية وبخاصة بعد ما حدث في ليبيا من جرائم ضد الإنسانية ارتكبها الحاكم الليبي ضد شعبه، وهناك ما حصل ويحصل في بلاد عربية أخرى من انتهاكات للقانون الدولي الإنساني سواء على يد السلطة أو على يد سلطات الاحتلال كما في فلسطين والعراق، يجعل من الضروري أن يكون للعرب حضور وصوت في جمعية الدول المنضمة إلى المعاهدة، ما يعطيها الفرصة للمشاركة في اتخاذ القرار وفي تسيير عمل المحكمة واحتلال مواقع مهمة فيها كما أن العرب في سعيهم لمحاكمة مجرمي الحرب الصهاينة ستكون عضويتهم في المحكمة عامل دفع وتشجيع للمحكمة من أجل تحقيق هذا الهدف المهم بالوسائل القانونية المتاحة.