عبدالله خليفة الشايجي
سطرنا في هذه المساحة خلال الأعوام الماضية العديد من المقالات والكتابات حول العلاقة المعقدة والمرتبكة بين الكويت والعراق التي ترفض أن تتقدم إلى المستقبل وتبقى عالقة في الماضي، تستحضر أشباحه ومظالمه وعقده وهواجسه حتى بعد مرور أكثر من عقدين على أكبر كارثة بين البلدين من غزو واحتلال للكويت، وعقوبات وحصار وحرب وإسقاط للنظام العراقي. وهذا يكرس جدلية العلاقة المعقدة بين البلدين.
وعشية كل ذكرى للخطيئة الكبرى التي ارتكبها نظام شمولي بعثي بقرار شخصي غير محسوب العواقب بالاعتداء على الكويت تطفو عاماً بعد عام عادة أصبحت موسمية تبقي أجواء احتقان وشحن تلك الخطيئة حية متوقدة، بتصريحات حول الحدود والقروض والتعويضات، وأن على الكويت التوقف عن طلب التعويضات وإسقاط الديون التي تكبدها العراق بسبب مغامرات وحروب صدام ضد جيرانه من إيران والكويت حتى لا يعاقب العراقيون مرتين بسبب النظام القمعي الذي سيطر على مقاليد بلدهم لأكثر من ثلاثة عقود. وكذا اتهام الكويت بإبقاء العراق مكبلاً بقيود الفصل السابع.
وعلى رغم مرور عقدين من الزمن على احتلال العراق للكويت في عام 1990 وهي الكارثة التي فجرت تغييرات جارفة في تضاريس توازن القوى في الخليج العربي والشرق الأوسط وفي موازين القوى في المنطقة، في اعتداء غير مسبوق في حجمه وأبعاده وتداعياته على البلدين وكذلك على الأمن القومي والوحدة والتضامن العربي، حيث أخرج العراق من معادلة الأمن الإقليمي والعربي مما سهل التفتيت العربي، ومهد لتغييرات جذرية في كل من الكويت والعراق وصولاً لإسقاط نظام صدام الذي انتهى به الأمر بالإعدام شنقاً.
ويبدو أن العلاقة الكويتية- العراقية تراوح في ثنائية دائمة من التشكيك والمظالم حيث تعشش نظرية المؤامرة لدى الطرف العراقي، التي يلفها ظلم التاريخ ويغلفها تجني الجغرافيا التي حرمته، بقناعة العراقيين بأنهم لا يزالون مستهدفين ومهددين. ويقدمون أدلة من الاحتلال الأميركي والهيمنة الإيرانية وquot;التآمرquot; الكويتي وآخر فصوله إقامة quot;ميناء مبارك الكبيرquot; لخنق العراق وإبقائه دولة مغلقة ومنعه من إطلالة كبيرة على الخليج، وكذلك المحاصرة التركية بإقامة سدود أتاتورك.
وكنت قد كتبت هنا في هذه المساحة في ذكرى الغزو العراقي للكويت الأخيرة ما يلي: quot;في تاريخ الشعوب والأمم، ثمة أحداث ومصائب وكوارث ترسم واقع ومستقبل تلك الدول والمجتمعات، وتشكل علامة مفصلية ومحورية في تاريخ وتطور تلك الدول والكيانات... والعلماء يقولون إنه حتى يستطيع الإنسان أن يسامح ويعفو عن الإساءة عليه أن ينسى أولاً. وعلى رغم عودة العلاقات بين البلدين منذ عام 2004 وتبادل السفراء خلال العامين الماضين، إلا أن العلاقة بين الكويت والعراق لا تزال مرتبكة وضبابية وليست طبيعية وتفتقد للزخم والحماسquot;. ولكن، كيف يمكن النسيان ونحن عالقون في جراح الذاكرة ونستمر في نبش الماضي؟
قيل قديماً إن quot;التاريخ يعيد نفسه لأن الجغرافيا لا تتغيرquot;، ويبدو أننا نعيش هذه المقولة بين العراق والكويت بامتياز. وآخر فصول جولات المواجهات المستمرة بين الكويت والعراق هو تهديد العراق رسميّاً عبر وزير النقل العراقي هادي العامري، الأمين العام السابق لمنظمة quot;بدرquot;، بنقض اتفاق ترسيم الحدود بين العراق والكويت والمرسم رسميّاً من الأمم المتحدة بقرار 833 عام 1993 من مجلس الأمن، بعد تسيير مظاهرات معادية للكويت بسبب بدئها بناء quot;ميناء مبارك الكبيرquot; في جزيرة بوبيان القريبة من العراق. والميناء هو جزء من منظومة استراتيجية كويتية متكاملة تمتد لسنوات لإنشاء مدن حدودية وصناعية وتجارية وفق خطط تنموية طموحة ضمن الأراضي الكويتية وحسب القانون الدولي وحق سيادة الكويت على أراضيها. والملفت أن صدام بقي يطالب بـتأجير جزيرة وربة وبوبيان لمدة 99 عاماً في شتى مراحل التفاوض مع الكويت ليكون للعراق موطأ قدم على رأس الخليج العربي.
وحجة العراق في معارضة بناء quot;ميناء مبارك الكبيرquot; أنه سيخنق الموانئ العراقية وخاصة الميناء الذي سيشرع العراق في بنائه quot;الفاو الكبيرquot;، وأنه يشكل تعديّاً على الحدود العراقية، ويغلق الدخول إلى الموانئ العراقية الجنوبية، وعددها خمسة موانئ تجارية واثنان نفطيان. وذهب الوزير العراقي بعد خروج تظاهرات في البصرة والجنوب العراقي معادية للكويت إلى حد التهديد، في إحياء لهواجس ترفض أن تموت، بنقض، والتخلي عن تطبيق قرار مجلس الأمن 833، وحتى بالاستقالة من منصبه إذا لم تمنع الحكومة العراقية الكويت من بناء quot;ميناء مبارك الكبيرquot;.
إن على كل واحد من الطرفين طمأنة هواجس الطرف الآخر بعيداً عن تصفية الحسابات والغرق في الماضي أو رفض التعاون الاستراتيجي والنظر نحو المستقبل. وعلى الكويت طمأنة العراق بأنها ليست في الخندق المعادي له وليس من مصلحتها ذلك. بل لقد طمأن نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية الكويتي الشيخ محمد الصباح الطرف العراقي بأن الكويت تريد quot;عراقاً آمناً ومستقرّاً ليكون ضمانة لأمن واستقرار الكويت والمنطقةquot;، وأن quot;يكون جزءاً أساسيّاً من منظومة الأمن الإقليمي العربي.. وأن يخرج العراق أقوى مما هو عليهquot;.
وللأسف بدل أن يتحول quot;ميناء مبارك الكبيرquot; إلى رافعة للتكامل والتعاون الاقتصادي، ورمز للشراكة الاستراتيجية والاستثمار وتحويل جزء من الديون العراقية لاستثمارات في قطاعات تجارية تساهم في البناء والإعمار في عراق المستقبل بمشاريع مشتركة تؤمن المصلحة المشتركة، وبحيث ننشئ منطقة تجارة وطاقة حرة في هذا الميناء بما يعود بالفائدة على جميع الأطراف، ويكون للعراق وحتى لإيران في المستقبل دور ومشاركة في بناء مصفاة تكرير للنفط مثلاً وملتقى لخط أنابيب النفط والغاز وميناء للتصدير للشرق الأوسط وآسيا الوسطى في شراكة تربط المصالح وتعزز الثقة وتنقلنا من أجواء التشكيك والتخوين إلى مستقبل أكثر أمناً وتعايشاً واستقراراً، بدلاً من كل ذلك نرى كيف تحول الميناء إلى خندق وبؤرة توتر تزيد من تعقيد العلاقة المتشنجة وتكرس الهواجس التي ترفض الاندثار. الفشل في دفن هواجس الخوف والهيمنة والنوايا والتآمر سيبقي الكويت والعراق أسيرين للماضي حتى في عقليه الجيل الجديد. وتبقى الهواجس حية متوقدة. وبسبب الاقتناع بجور التاريخ وظلم الجغرافيا وquot;التآمرquot; تبقى الخشية قائمة من أن يعيد التاريخ نفسه. وفي هذا خسارة للطرفين!
التعليقات