فيصل جلول

أعلنت فرنسا الحرب على ألمانيا عام 1870 وتوعدتها بالويل والثبور وعظائم الأمور ليتبين أنها خسرت الحرب في معركة سيدان الشهيرة بعد يومين فقط من اندلاع المعارك . وقد أسر الألمان في هذه الحرب الخاطقة رئيس الدولة الإمبراطور نابليون الثالث ومعه حوالي مئة ألف جندي فرنسي . ثم اتجهوا نحو باريس التي قاومت بعد الاستسلام لكنها سقطت بدورها في مطالع يناير/كانون الثاني عام 1871 . وقد أدت هذه الحرب إلى سقوط ما يقارب التسعة آلاف جندي ألماني بين قتيل وجريح و26 ألف جندي فرنسي بين مصاب وقتيل . أما النتائج الأخرى فلا تقل إهانة عن خسائر ساحة المعركة، فقد اجبر الألمان فرنسا على دفع خمسة مليارات فرنك ذهبي، وتوجه بيسمارك إلى قصر فرساي حيث أعلن الوحدة الألمانية من هذا الصرح الفرنسي العريق الذي أراده لويس الرابع عشر رمزاً لقوة فرنسا وعظمتها .

ومن بين الخسائر الفرنسية نشير إلى ضم معظم مقاطعتي الالزاس واللورين إلى الأراضي الألمانية .

لم ldquo;يولولrdquo; الساسة الفرنسيون ولم يبادروا إلى تصفية بعضهم بعضاً في الساحات العامة، وإذا كان صحيحاً أن قضية دريفوس هي من اثر هذه الحرب وقد قسمت الساحة الفرنسية إلى قسمين واحد معه والآخر ضده، فالصحيح أيضاً أن هذا الانقسام انتهى في وقت لا حق بعد أن بريء الضابط اليهودي الأصل الذي قال عنه إميل زولا انه ldquo;لا يشبه الأبطال بل بائعي أقلام الرصاصrdquo; .

أشير إلى معركة ldquo;سيدانrdquo;، للحديث عن هزيمة يونيو/حزيران عام 1967 التي كنا وما زلنا نولول ونندب حظنا جراء وقوعها، وكأنها نهاية المطاف في تاريخنا وكان أحداً لم يهزم مثلنا من قبل، وكأننا بعدها لا نجرؤ على خوض الحرب وعلى الانتصار . والمذهل في تصرفنا إزاء الهزيمة هو أننا صرنا ننسب إليها كل ما أصابنا وسيصيبنا في كل المجالات . فمنها خرجت فكرة التخلي عن الإسلام لأنه سبب الهزيمة بحسب صادق جلال العظم في ldquo;نقد الفكر الدينيrdquo; ومنها خرجت فكرة استحالة كسب الحرب ضد الصهاينة لأنهم متطورون ونحن متخلفون، ومنها أيضاً خرجت أفكار التوازن الاستراتيجي مع الدولة الصهيونية الذي لا تتم حرب أخرى من دونه . وبما أن هذا التوازن كان متعذرا فقد تعذرت الحرب وان اندلعت لأيام في أكتوبر/تشرين الأول عام 1973 فليؤكد الرئيس الراحل أنور السادات بعيدها أنه يريد التصالح لأن أمريكا تملك 99 في المئة من أوراق اللعبة، وأنه لا يستطيع قتال أمريكا في حين استطاعت فيتنام قتالها واستطاعت كوبا الوقوف بوجهها ومازالت .

هكذا كانت حرب يونيو/حزيران 1967 ومازالت إلى حد ما ولادة أفكار انهزامية لا تريد للهزيمة أن تمضي بل تسعى عفوا أو قصدا لا فرق إلى توطينها في ذاكرتنا إلى أجل غير مسمى . لم تكن هزيمتنا في حرب الأيام الستة بحجم الهزيمة الفرنسية في ldquo;سيدانrdquo;، ولم يقع رئيس دولة عربية في الأسر خلال المعارك، ولم يوقع أي منا وثيقة استسلام للصهاينة بعيد الحرب كما فعل الفرنسيون مع الألمان، ولم تفرض تل أبيب علينا شروطاً مالية لوقف الحرب شبيهة بالشروط الألمانية التي فرضت على فرنسا، بل يمكن القول إن هزيمة فرنسا كانت تعادل عدة هزائم من هزيمتنا في الحرب المذكورة، ومع ذلك صارت الهزيمة الفرنسية جزءاً من التاريخ الذي لا يحب الفرنسيون التوقف عنده طويلاً، في حين ما زلنا نمارس لطمياتنا في ذكرى النكسة ونندب حظنا بدلاً من الاستعداد الحثيث لمحو هذه الإهانة، وتلقين ldquo;إسرائيلrdquo; درساً من الطبيعة نفسها .

ولأننا تعودنا اللطم منذ النكسة فقد منعنا البكاء من رؤية المعاني العميقة لحرب أكتوبر/تشرين الأول، عام ،1973 فتعاطينا معها وكأنها محطة عابرة أو استثنائية في سياق مهزوم وليست منطلقاً نحو مسيرة جديدة في صراعنا الوجودي مع الكيان . ولأننا استطبنا البكاء جراء النكسة فإننا لم نتمكن من رؤية كافة أبعاد الهزائم التي لحقت بالصهاينة في لبنان ولم نقدرها حق قدرها .

لن نمحو نحن العرب أثار حرب الأيام الستة إلا إذا تمكنا من طي صفحة الهزيمة في نفوسنا ووضعنا حدا لمراثينا وبكائياتنا الحزيرانية . فالهزيمة تبدأ وتستقر في العقول تماما كالانتصار الذي يبدأ ويستقر في العقول نفسها .