ناجي صادق شراب

يكثر الحديث في هذه المرحلة المصيرية التي تمر بها الدول العربية في ظل الثورات والتحولات التي تشهدها، وما ترتب عليها من بروز واضح لدور الحركات الإسلامية في الحياة السياسية باعتبارها فواعل لا يمكن تجاوز دورها في بلورة وإعادة تشكيل المنظومة السياسية العربية كلها، عن النموذج التركي، والنجاح الذي حققه حزب العدالة والتنمية التركي في الحكم منذ فوزه في انتخابات 2002 وبالفوز الكبير الذي حققه في الانتخابات الأخيرة، لدرجة أن بعض القوى السياسية الإسلامية قد ذهبت إلى الاسم نفسه .

وعلى الرغم من هذا النجاح للنموذج التركي، لكن تبقى له خصوصيته ومحدداته التركية الداخلية والخارجية، والأوروبية خصوصاً، وليس معنى نجاح هذا النموذج أن تقوم الدول العربية بنسخه بالكامل، وتطبيقه من دون مراعاة لخصوصية الحالة العربية التي تختلف في بعض تفاصيلها ومتغيراتها عن الحالة التركية .

إن عملية التحول التي مازالت قائمة في تركيا قد استغرقت عقوداً كثيرة، فهي لم تتم في لحظة زمنية عابرة وليست وليدة يومها، بل مرت بمراحل متعددة، سادها نموذج العسكر المسيطر والمهيمن . ومن أبرز مظاهر التطور السياسي في تركيا أن المؤسسة العسكرية كانت تنقلب على كل حكومة أو مؤسسة سياسية في حال فكرت في الخروج على العلمانية كأساس لشرعية النظام . أما الآن فالأمر تغير وباتت هناك رؤية سياسية واضحة لحاضر تركيا ومستقبلها ودورها ومكانتها إقليمياً ودولياً . وتستمد هذه الرؤية وضوحها وقبولها من تفهم خصوصية الحالة التركية، ومن المحددات والمعطيات التي تحكم دور ومكانة تركيا . والمسألة هنا ليست مجرد رؤية حزب العدالة، بقدر ما هي رؤية تركيا نفسها التي تأخذ في الاعتبار كل العوامل التاريخية والجغرافية والحضارية والثقافية والسكانية التي تحدد إطار هذه الرؤية، وهنا مثلاً لا يمكن تجاهل تأثير المحدد الأوروبي كمحدد جغرافي وحضاري، ثم النظر إلى دور الدين في ظل الكل التركي . لكن على الرغم من أهمية التسليم بدور الدين كأحد أهم محددات السياسية التركية، فإنه لا ينبغي أن يتعارض مع الواقع التركي بكل محدداته، ولا يعني إلغاء لما هو قائم . وتبرز هذه الرؤية في الاعتراف بعلمانية الدولة، إذ بدلاً من الدخول في صدام معها، يتم البحث عن صيغ توافقية تكاملية وصولاً إلى صيغة وإطار سياسي مقبول يبرز فيه دور الدين كمرجعية وإطار حضاري سياسي، وبهذا المعنى تم التعامل مع الدين كإطار حضاري وقيمي واسع، وهو ما يفسر لنا احتكار الدولة لوظيفة الدين، وإشرافها على كل المساجد، وبالتالي تغلبت الدولة على التناقض بين دور الدولة الديني ودورها السياسي . والملاحظة الثالثة المهمة التي على الحركات الإسلامية في الدول العربية أن تأخذ بها ما يمكن تسميته بالالتزام الديمقراطي من قبل حزب العدالة، فلا وجود لمبدأ انتخابات لمرة واحدة التي تثير القلق والخوف المجتمعي . الاحتكام هنا للإرادة الشعبية عبر الانتخابات الدورية، فلا تجاوز، ولا قفز على موعد الانتخابات، وهذا تأكيد لمبدأ دورية الانتخابات وتداول السلطة، وهما من أبرز وأهم المبادئ الديمقراطية .

والعامل المباشر الذي يقف وراء ذلك أن حزب العدالة ينطلق مما تريده تركيا أولاً كدولة محورية وإقليمية مركزية، وأن هذا الدور يتطلب هذه المرونة والواقعية السياسية، طالما أنها تتوافق مع المصلحة التركية العليا . والملاحظة المهمة هي إدراك دور المؤسسة العسكرية، والعمل على تحول دورها من دور المؤسسة المسيطرة والمهيمنة على الحياة السياسة التركية إلى دور الحامي للإنجازات السياسية والاقتصادية التي حققتها تركيا في ظل حكم حزب العدالة، وقد تطلب هذا تبني سياسة واقعية ومدركة لقوة المؤسسة العسكرية، والعمل على تصحيح ميزان العلاقة بين المؤسستين من علاقة تبعية المؤسسة السياسية للمؤسسة العسكرية أي ولاء وتبعية المؤسسة العسكرية إلى المؤسسة السياسية، وهذا من أهم مظاهر الحكم الديمقراطي المدني، ولكن في الوقت نفسه لا يمكن تجاهل دور هذه المؤسسة العسكرية بسبب الكثير من المشكلات التي تواجه وحدة تركيا وأمنها القومي، ومشكلات حدود وأقليات . وهذا التحول اعتمد على المنهج السلمي الديمقراطي من خلال تعديل الدستور عبر الاستفتاء، وعبر اكتساب مزيد من الدعم الجماهيري لحزب العدالة، وهو ما أدركته المؤسسة العسكرية .

هذه بعض الملاحظات التي تعكس خصوصية الحالة التركية، وهو ما يجب مراعاته عند الحديث عن الحالة العربية، أي الأخذ في الاعتبار خصوصية الحالة العربية بكل مكوناتها، فتغيير أنظمة الحكم العربية بفعل الثورات العربية إنجاز كبير ينبغي المحافظة عليه من خلال تفهم واستيعاب خصوصية الحالة في كل دولة عربية . ولعل ما يمكن الخروج منه من الحالة التركية ليس نقل هذا النموذج بحذافيره رغم عناصر التشابه والالتقاء الكثيرة، ولكن الدروس التي تستوعب أهمها الالتزام الديمقراطي، والإنجاز الاقتصادي، وتأكيد دور المؤسسة العسكرية كحامية ومدافعة عن أهداف الثورة، وتبني ثقافة توافقية لا إقصائية إلغائية، وأن أي نظام سياسي يعمل في إطار نظام وبيئة دولية لا يمكن تجاهل تأثيراتها . والبديل لذلك الدخول في حالة من الفوضى السياسية، والصراع بين القوى والأحزاب السياسية الذي إما أن يعيد حكم العسكر، وإما أن يأتي بدكتاتور آخر ودكتاتورية جديدة .