لقاء المعارضين في دمشق ومشروع الإصلاح السياسي
طلال سلمان
السفير
نجحت قوى معارضة وطنية وديموقراطية في سوريا في امتحان الجدارة، وقدّمت عبر مؤتمرها الطارئ، يوم أمس الأول، الاثنين، نموذجاً راقياً لحركة الاعتراض على سلوك النظام بدافع الحرص على الوطن ودولته وحقوق الإنسان فيه وعنوانها الحرية.
تخفّف ذلك النفر من المثقفين وأهل الرأي من مرارات التجارب الشخصية مع الأجهزة الأمنية، وفيهم الكثير ممّن اعتُقلوا لغير ما سبب، وفيهم مَن سجنوا شهوراً وأحياناً سنوات لغير ذنب ارتكبوه غير التمسك بحقهم في أن يقولوا رأيهم، ودائماً بدافع الحرص على كرامة وطنهم وحقوق مواطنيه، وبالتالي كرامة دولتهم، ولو رأى بعض أهل النظام في الإصلاح خطراً داهماً لا بد من مواجهته بالقوة المطلقة.
تخفّفوا من ذلك كله، وجلسوا في قاعة مزدحم داخلها بالمهتمين، ومزدحم خارجها برجال الأمن والمواطنين المتلهفين إلى ما يطمئنهم إلى يومهم وغدهم، وانطلقوا يطرحون أوجاع وطنهم ويناقشون السبل والوسائل الكفيلة بتوفير مخرج صحي من الأزمة الدموية التي تفاقمت بحيث تجاوز خطرها النظام إلى الدولة وأهل الحكم إلى الوطن.
كانوا يعرفون أن laquo;الأمنraquo; في كل مكان، وإن فاجأهم اهتمام الإعلام الرسمي وازدحام الكاميرات تتخاطف صورهم، والصحافيون يطلبون نسخاً من كلماتهم... ففي البلاد التي تعيش أوضاعاً طبيعية يعتبر مثل ذلك اللقاء خبراً عادياً، بالكاد يحظى بمساحة للنشر في الصحف أو نشرات الأخبار المحلية.. أما وسوريا تعيش حالة اضطراب دموي يتهددها في ما يتجاوز استقرارها إلى ثوابتها الوطنية المؤكدة وحدة مجتمعها ودولتها، فإن مثل هذا اللقاء يكتسب قيمة إضافية لأنه يعكس تحوّلاً مهماً ومزدوجاً: في مفهوم النظام لحق المعارضة في رفع صوتها بالاعتراض على الخطأ الذي تفاقم فأنذر بتهديد سلامة الوطن، وفي تأكيد المعارضة على حقها البديهي في طلب الإصلاح واستعجال خطوات التنفيذ.
كانت التطورات المتلاحقة التي صبغت وجه سوريا بالدمّ قد أسقطت المفهوم البوليسي الذي يعتمد قاعدة مفادها أن المعارضة خيانة، أو هي دعوة إلى الفتنة أو ـ بالحد الأدنى ـ خروج على النظام يستوجب التأديب.
وجاء هذا التلاقي الذي اتخذ شكل المؤتمر ليؤكد ما ليس بحاجة إلى توكيد من أن المعارضة ـ فضلاً عن أنها حق ديموقراطي بديهي ـ هي في صميم العمل الوطني، وهي تعزز الوحدة الوطنية ولا تهدّدها، وتفضح دعاة الفتنة والانفصاليين والطوائفيين والعنصريين وتكشفهم وتسفّه منطقهم التحريضي المعادي للديموقراطية وكرامة الوطن وسلامة دولته.
كذلك تأكد المؤكّد من أن التسليم بوطنية المعارضة التي عنوانها المطالبة بإصلاح جدي وشامل يبدأ من تحرير الدولة والمجتمع من laquo;الحزب القائدraquo; يوفر للنظام فرصة التخلص من أثقال تخوّفه من الإقدام على الإصلاح الذي بات شرط حياة له.
تلك مرحلة مضت وانقضت، وقد كلفت البلاد وشعبها الكثير الكثير، وآن أن تُعاد صياغة الدولة بمؤسساتها، وأن يُتاح للمجتمع أن يعبّر عن ذاته وأن يسعى لتحقيق مطامحه بغير قيود تُفرض عليه وكأنه قاصر بحاجة إلى وصاية دائمة وإلى ترشيد على مدار الساعة.
لقد أكد السياق الدموي للأحداث التي هزت سوريا وضربت استقرارها وأساءت إلى صورتها التي كانت تقدمها كقلعة وطيدة الأركان ثابتة على مواقفها في موقعها المميّز، أن النظام قد شاخ وأن أجهزته قد أصابها التكلّس وأن الصمت المفروض قد باعد بين الشعب وبين القيادة... وأن كثيراً من القوى التي لا تريد الخير لسوريا، دولة وشعباً، قد نفذت من تلك الثغرة فقلبت الاعتراض إلى تمرّد، وقلبت طلب الإصلاح إلى مواجهة عبثية بالسلاح ذهب ضحيتها مئات الضحايا الأبرياء وكبّدت البلاد خسائر فادحة يصعب تعويضها إلا بمزيد من التعب والعرق والصبر على الشح في الرزق في ظل انطفاء أسطورة الاستثمار الخيري.
هي خطوة أولى على طريق طويلة جداً وحافلة بالصعاب والمطبات، خصوصاً مع استمرار الاضطراب في أحوال الأمن، وتواصل تظاهرات الاحتجاج.
لكن هذه الخطوة يمكن أن ترشد اللقاء التشاوري المكلف بالإعداد لمؤتمر الحوار الوطني المقرر عقده في العاشر من تموز المقبل.
لقد وضع لقاء السميراميس الإطار العريض للمطالب وحدد العناوين الثابتة للإصلاح، ورسم إلى حد ما الطريق إلى تنفيذها.
والمهم تسريع الخطوات التنفيذية وصولاً إلى ما طرحه الرئيس بشار الأسد في خطابه الأخير حول الدستور الجديد والانتخابات والقوانين الجديدة المتصلة بإنشاء الأحزاب وبالإعلام ومكافحة الفساد.
هي خطوة أولى..
لكن أهميتها أنها تؤسس لمرحلة جديدة في الحياة السياسية لسوريا، لا سيما أنها من خارج laquo;المؤسسة الرسميةraquo;، ولم تصدر بقرار، ولم يتم إقرار بنودها بالتزكية مرفقة بالتصفيق الحاد والهتافات التي تضيّع أساس الموضوع.
فلنأمل أن تتوالى الخطوات على طريق إعادة البناء المنشودة.
الثورات لا تمطر ذهبا
عادل الطريفي
الشرق الاوسط
منذ يناير (كانون الثاني) الماضي، وهناك خمس عواصم عربية معطلة سياسيا، وإداريا، وأمنيا، لكن أعظم من ذلك كله هو السقوط القوي ndash; والحر - لاقتصادات تلك العواصم بالقدر الذي باتت فيه نتائج الانتفاضات العربية مهددة بالفشل، وهذه المرة من الباب الاقتصادي. في موجة الاحتفاء بالمظاهرات التي عمت تلك العواصم العربية، والتي تحول البعض منها إلى حالات عصيان مدني وفوضى مفتوحة، غاب عن البعض اعتبارات أساسية ربما فاقت أهميتها مسألة الثورة على الاستبداد، منها: الأمن الاقتصادي.
سواء اختلفت أو اتفقت مع بعض سياسات النخب الحاكمة في البلدان التي ضربتها حمى الثورة، فإنه لا يمكنك إغفال أن اقتصادات تلك البلدان شهدت نموا اقتصاديا، وارتفاعا ملحوظا في الاستثمارات الأجنبية خلال السنوات الخمس الماضية، بحيث إن دولا مثل تونس ومصر - بل وحتى ليبيا وسوريا - تمكنت من إدخال عدد من الإصلاحات الاقتصادية والتشريعات التجارية التي حسنت من حظوظها التنافسية في الأسواق الإقليمية. هذا لا يعني أن تلك الأنظمة كانت خالية من الفساد، أو أنها تمكنت من القيام بنهضة اقتصادية، بل كل ما في الأمر أنها حسنت ظروف الاقتصاد بشكل عام، وإن لم يترجم ذلك إلى رجل الشارع العادي، ولعل السؤال هنا: هل كانت تلك الأنظمة السلطوية - الريعية - ضحية لإصلاحات السوق وتحرير التجارة؟
في حديث مع خبير اقتصادي أوروبي شارك في تقديم استشارات لإعادة الهيكلة الاقتصادية لبعض الدول العربية خلال العقد الماضي - لم يشأ ذكر اسمه - أشار إلى أنه يشعر أن الظروف التي أدت إلى ما يسمى laquo;الربيع العربيraquo; هي في جزء منها مرتبطة باختلال التوازن بين الأنظمة ومواطنيها بعد أن تعثرت المعادلة laquo;الريعيةraquo; القديمة، التي تفيد بأن النظام يحكم الأغلبية من مواطنيه في مقابل أن يؤمن الاحتياجات الضرورية عبر حزمة طويلة من مشاريع الدعم للغذاء، والسكن، والوقود، والتعليم، والعلاج، ومشاريع إصلاح زراعي وتأميم للمرافق الخدمية، وفوق ذلك كله تضخم نوعي وكمي في عدد الوظائف والأجهزة الحكومية في القطاعات كلها؛ بحيث باتت الدولة مسؤولة عن توظيف الملايين من المواطنين، وتأمين رواتبهم التقاعدية. المعادلة وفرت الاستقرار السياسي لأكثر من خمسة عقود، لكن حين قرر الجيل الشاب في السلطة أن يرث الحرس القديم وأن يثبت نواياه التحديثية والإصلاحية عبر تحرير التجارة، وخصخصة مرافق الدولة، واستقدام الاستثمار الأجنبي، بل وحتى الانفتاح على مؤسسات المجتمع المدني وحقوق الإنسان ورعايتها - كما حصل في ليبيا مثلا - هنا حدث الخلل الكبير، فعجزت الدولة عن التوفيق بين أنظمة وتشريعات واقتصادات محلية متخلفة بموازاة اقتصاد حر وحديث، ونخبة عصرية متأثرة بالنموذج الغربي، قاد ذلك كله في النهاية إلى حالة انفجار، وحين حاولت أجهزة الدولة الأمنية العودة إلى ممارساتها القمعية القديمة سقط النظام بالكامل.
باختصار، فترة الإصلاح التي شهدتها بعض الأنظمة خلال العقدين الماضيين أسهمت - نسبيا - في سقوطها، ليس لأن الإصلاح يؤدي إلى الفشل، بل لأن اعتماد الانتقائية في laquo;الإصلاحraquo;، والعجز عن التوفيق بين الممارسات والمؤسسات القديمة والمؤسسات الحديثة والطبقة الحديثة يخلقان حالة من عدم الاستقرار. في أعقاب سقوط بعض الأنظمة اعتلت السلطة شخصيات - بعضها ديماغوجي - تزايد على مواقف الشارع الثوري، وتقوم بتقديم سيل من الوعود والتعهدات فيما خص الاقتصاد، يصب أغلبها في خانة التعمية والتضليل. فعلى سبيل المثال، ينتشر في الوقت الراهن خطاب laquo;شعاراتيraquo; مفاده أن أحد أسباب فساد الأنظمة السابقة كان في اعتمادها على توصيات وسياسات مؤسسات دولية - كالبنك وصندوق النقد الدوليين - وأن اقتصاد الثورة يجب أن يكون مستقلا ومعتمدا على ذاته، وأن يتجنب الاقتراض من الدول الغربية، بل يذهب البعض إلى الدعوة لتأميم بعض الاستثمارات والممتلكات الأجنبية بدعوى أنها حدثت في عهد الفساد، وسرقت أموال الشعب. في المحصلة، يدعو هؤلاء إلى نموذج اقتصادي لا يمكن وصفه إلا بمركزية اشتراكية عدائية تجاه الأجنبي.
في مصر مثلا، أطلقت مجموعة من المسؤولين في الحكومة الانتقالية عددا من الوعود والشعارات والبيانات المتناقضة فيما يخص حالة الاقتصاد المصري اليوم. وزير المالية المصري، سمير رضوان، قال إن الحكومة المصرية لن تلجأ إلى الاقتراض من البنك الدولي أو صندوق النقد، قائلا إن مصر قادرة على خفض العجز في موازنتها المقبلة، وتمويل نفسها من دون الحاجة للأجنبي، وإن ذلك ينسجم مع مطالب شباب الثورة. أما فايزة أبو النجا، وزيرة التخطيط والتعاون الدولي، فقد أكدت أن مصر لا تخضع لأي إملاءات من صندوق النقد أو البنك الدوليين، مشددة على أن laquo;مصر لا تستمع إلا لصوت مصلحتها فقط، أولا وأخيرا، وأن مساعدات الدول الصديقة لا تخضع لشروط تمس بسيادة مصرraquo;.
غني عن القول إن أي طالب علوم اقتصادية مبتدئ لا يمكنه إلا أن يصاب بالذهول عند سماعه هذه التصريحات، فمراجعة سريعة لسجل الاقتصاد المصري منذ بداية هذا العام تكشف عن كارثة - حقيقة - تتهدد مستقبل البلد الاقتصادي. لقد خسرت مصر قرابة 10 مليارات دولار من احتياطاتها الأجنبية - أي ما يقارب الثلث - وتراجع النمو الكلي بواقع 10%، وتراجع الإنتاج الصناعي المصري بأكثر من 12%، ناهيك عن توقف عائدات السياحة، والاستثمار الأجنبي. أما أعداد العاطلين عن العمل فقد تضاعفت، بينما فقدت البورصة الكثير من قيمتها، وأكثر التنبؤات الاقتصادية تحمل أخبارا سيئة للغاية حتى في أفضل السيناريوهات.
ما معنى أن يطلق المسؤولون في مصر تصريحات وأرقاما هم يعرفون، قبل غيرهم، أنها غير دقيقة؟ لقد تلقت الحكومة المصرية وعودا بمساعدات - وديون - تفوق الـ20 مليار دولار، فكيف يمكن أن يقال إن مصر لن تستدين من الخارج؟! الاحتجاجات والمظاهرات عطلت الحياة العامة في مصر والبحرين وسوريا واليمن وليبيا، بحيث بات من المتعذر أن تستعيد هذه الدول قدراتها الإنتاجية والصناعية، فضلا عن أن تقوم بزيادة الإنتاج لتغطية العجز. أولئك الذين يخرجون بالآلاف في عواصم تلك البلدان لشهور هل ينتجون شيئا بالأساس؟!
مشكلة دعاة laquo;الربيع العربيraquo; أنهم يجادلون بأن ما حدث ضروري كي تتحسن الأحوال، حتى لو استمرت الفوضى لبضع سنوات، لكن الحقيقة المرة هي أن هذا الاضطراب الكبير الذي أصاب بعض اقتصادات دول المنطقة قد يستمر لعقود مقبلة دون أن تتمكن تلك المجتمعات من استعادة وضعها الاقتصادي. البعض يتصور أن مظاهر الاحتجاج ومقارعة السلطات الحكومية، بل وزيادة تدخل الحكومة في تسيير الاقتصاد وفرض تشريعات حمائية ودعم للسلع وزيادة للمرتبات دون زيادة واقعية في الإنتاج أو مصادر الدخل، ستحل مشاكل الدولة على المدى البعيد، لكن الأرقام لا تستقيم مع تلك التمنيات المبالغ فيها.
لعل هذا السلوك يذكرنا بحكاية الرجل الذي تخلى عن عمله، والتزم دار العبادة يدعو أن يُرزق دون أن يقوم بالعمل. أي أن الثوار الذي يملأون الشوارع العربية يريدون أن تؤمِّن لهم حكوماتهم رغباتهم كلها، دون أن يفكروا في محدودية وتواضع مصادر الدخل والقدرة الإنتاجية في بلدانهم.
يقول الاقتصادي الأميركي الراحل ميلتون فريدمان: laquo;مصدر رئيسي للاعتراض على الاقتصاد الحر هو على وجه التحديد تلك المجموعة التي تعتقد أن ما تريده يجب أن يكون.. إن وراء معظم الحجج ضد السوق الحرة عدم وجود حرية الاعتقاد في حد ذاتهاraquo;.
إذا كان دعاة laquo;الربيع العربيraquo; يؤمنون فعلا بالحرية، فعليهم أن يقبلوا بحرية السوق لا أن يعيدوا بلدانهم إلى العهد الاشتراكي، وأن يباشروا الإنتاج الحقيقي بدل الاحتجاج المتواصل ارتهانا للفوبيا الثورية، فالثورات لا تمطر ذهبا.
التعليقات