عصام نعمان

للعراق في السياسة فرادة . إنها انقلابيته اللافتة . ما من قطر عربي انقلب على نفسه، اضطراراً أو اختياراً، مثل العراق . منذ عشرينات القرن العشرين حتى زمننا الراهن عاش العراق وعانى ما يربو على عشر عهود، متداخلة حيناً متمايزة حيناً آخر، لكن سلطة القرار لديه كانت دائماً متجسدة في قائد فرد متسلط (أو مجموعة قياديين متسلطين) خاضع لسلطة عليا أجنبية: عثمانية، بريطانية وأمريكية، أو متجسدة في قائد فرد مستقل في إرادته، متفرد في قراره .


في جميع عهوده، ما قبل الاحتلال الأمريكي، كان العراق مؤثراً في محيطه الإقليمي . بعد الاحتلال، أصبح متأثراً بمن وبما هو خارجه . فقدان التأثير ليس مرده إلى الاحتلال فحسب بل إلى خاصية أخرى أحسَن الاحتلال استغلالها وتوظيفها في خدمة أغراضه . إنها التعددية التي تطبع العراق بميسمها الدامغ .


العراق بلد تعددي . فيه ثلاث أقوام: عرب وكرد وتركمان، وثلاثة اديان على الأقل: الإسلام والمسيحية واليهودية، ناهيك بعشرات المذاهب والمشارب والطرق والثقافات المتعددة . إلى ذلك، يحفل العراق بآلاف القبائل والعشائر المنتشرة على مجمل مساحته . باختصار، العراق فسيفساء أثنية ودينية واجتماعية وثقافية مرهقة .


لم تكن التعددية في العراق، رغم تجذّرها ورسوخها، ظاهرة ومؤثرة في الماضي كما هي في الحاضر . مرد ذلك، بالدرجة الأولى، إلى فعالية قمع السلطة من جهة وفعالية القيادة المتفردة من جهة أخرى . بعد حرب ،2003 حرصت سلطة الاحتلال على تأجيج عصبيات الطوائف والمذاهب والطرق والإثنيات والقبائل لتوظيفها في عملية التفريق والتمزيق والشرذمة . الواضح أنها نجحت في ذلك لدرجة عجزت معه الإدارة التي خلفتها عن ضبط المجتمعات الأهلية المنفلتة من عقالها .


ثمة عامل آخر أسهم في تأجيج التعددية وتفعيلها . إنه دخول إيران إلى الساحة العراقية مثقلة بذكريات الحرب من جهة ومهجوسة، من جهة أخرى، بحق الدفاع عن النفس في وجه عدو أمريكي يربض في جيرتها ما يساعده على إحكام حصاره عليها وتشديد احتوائها .


غير أن كل هذه المعطيات والعوامل القديمة الفاعلة ما كانت لتُدخِل العراق في حالته الانقلابية الجديدة لولا الحدث السوري الجلل . ماذا حدث؟


بعد الاحتلال الأمريكي، لعبت سوريا دوراً فاعلاً في العراق . فقد احتضنت قواه القومية المهزومة: البعث والناصريين والقوميين المستقلين، ناهيك عن جناح البعث الموالي لدمشق . أكثر من ذلك، سهّلت سوريا مرور الآف السلفيين القادمين من أربع جهات الأرض لمقاتلة الأمريكيين ldquo;الكفارrdquo; .


دورها الفاعل في الساحة العراقية أكسب دمشق أصدقاء وأعداء . الأصدقاء جاؤوا من الوسط القومي عامةً والوسط السنّي خاصةً . الأعداء جاؤوا من الوسط الشيعي الذي هاله اتساع الهجمة التي شنّها تنظيم ldquo;القاعدةrdquo; واتخذت طابعاً مذهبياً صارخاً . المتضررون من ldquo;القاعدةrdquo; لاموا سوريا لمجرد أنها كانت تساند قوى سياسية لها حضور في الوسط القومي والوسط السنّي، فضلاً عن كونها متحالفة إقليمياً مع إيران . ولعل رأس حربة المعادين للنظام السياسي في دمشق تمثّل في جناح حزب الدعوة الموالي لنوري المالكي الذي رأى في البعث السوري حامياً ورافداً للبعث العراقي .


مع تصعيد الولايات المتحدة حملتها على سوريا بسبب احتضانها فصائل المقاومة الفلسطينية والمقاومة اللبنانية من جهة وتحالفها مع إيران من جهة أخرى، تعاطف الوسط الشيعي مع سوريا وrdquo;غفرrdquo; لها مساندتها للقوى القومية المدعومة من الوسط السني بصورة خاصة . غير أن انفجار الاحتجاجات الشعبية المطالبة بالإصلاح في سوريا وقيام أمريكا وأوروبا بدعمها في حين ساندت ايران النظام السوري المتحالف معها، سرعان ما أدى إلى إحداث انقلاب في موازين القوى داخل العراق . فالقوى السياسية الشيعية المتأثرة بإيران زادت من تأييدها لدمشق بسبب دعم طهران للنظام السوري سياسياً وأمنياً . في المقابل، تأثرت القوى القومية والقوى السياسية السنيّة المناهضة للفيدرالية والمتفاعلة مع الأوساط السنيّة في سوريا بالاصطفاف الشيعي العراقي مع النظام السوري المدعوم من إيران، فاستيقظت حساسيتها إزاء إيران واتخذت بالتالي موقفاً متحفظاً من دمشق وخففت من عدائها لأمريكا .


ترافقت هذه التطورات مع ازدياد الأزمة الداخلية في العراق تعقيداً بسبب عجز المالكي وجماعته عن تمرير مشروع اتفاقية لتمديد الوجود العسكري الأمريكي في العراق لغاية سنة 2016 . ويبدو أن رئيس البرلمان أسامة النجفي، الخائف من مخاطر الصفقة المحتملة بين المالكي والولايات المتحدة من جهة وتراجع الدعم السوري للقوى السنيّة التي بات النجيفي زعيمها الأقوى من جهة أخرى، تحوّط للأمر فشدّ رحاله إلى واشنطن حيث اجتمع مع نائب الرئيس جو بايدن الذي كان ldquo;بشرrdquo; (يوم كان سيناتوراً) بتقسيم العراق إلى ثلاث دول: شيعية وسنيّة وكردية . وقبل عودته إلى العراق، صرح النجيفي بدم بارد: ldquo;أن حالة التهميش التي يعاني منها السنّة ومعاملتهم كمواطنين من الدرجة الثانية ستدفع بهم إلى الانفصال أو التوجه نحو الإقليم على الأقلrdquo; .


الانفصال صعب على ما يبدو . وحدهم الأكراد يؤيدونه بعدما نجحوا في إقامة إقليم ذي حكم ذاتي في الشمال يحاكي دولة مستقلة . أما الشيعة الذين كانوا دعوا بلسان زعيمهم الراحل عبد العزيز الحكيم إلى إقامة اقليم شيعي من المحافظات الشيعية الجنوبية، فقد غيّروا رأيهم بعدما تجذّر زعيمهم الحالي نوري المالكي في السلطة وأصبحوا يفضلون تقوية السلطة المركزية في بغداد وأخذوا يلوّحون بحكم الأغلبية العددية رداً على مشروع الإقليم السني . وحده مقتدى الصدر بقي معادياً للاحتلال الأمريكي ولتمديد إقامته في بلاد الرافدين . ولكن، هل يبقى الصدر المعروف بتقلباته المفاجئة على موقعه ldquo;الوحدويrdquo; الراهن؟


هكذا انقلبت الموازين والخيارات والتحالفات في العراق التعددي بعد الاحتلال الأمريكي وتغلغل النفوذ الإيراني وتراجع النفوذ السوري . هذا مع العلم أن التطورات العراقية المقلقة تفاقمت في ظل ما تسميه صحافة الغرب ldquo;ربيع العربrdquo; .


ترى، ماذا سيكون حال لبنان التعددي وسوريا التعددية وليبيا التعددية، بعد كل الذي جرى في السودان التعددي وما يمكن أن يجري في العراق التعددي؟