أسامة عبد الرحمن

يبدو أن الاحتجاجات أو الانتفاضات التي اجتاحت بعض المدن العربية، كان بعضها متقارباً إلى حد كبير من حيث الأسباب وأبرزها تفاقم البطالة وزيادة الفقر وتردي الوضع المعيشي والتنموي في ظل فساد واستبداد وانسداد للآفاق وغياب الحريات . وقد وصل بعضها، كما في مصر وتونس، إلى مستوى متقدم من حيث فرض بعض مطالبه أمام تهاوي الإطار السلطوي القائم باعتباره ثورة شعبية في ظل تتابع للأحداث لم يكن متوقعاً، أو بمعنى أدق، كان مفاجئاً . وتبعاً لذلك بدا ما يشبه الفراغ الذي استدعت الضرورة ملأه بإطار مرحلي، يحمل بعض سمات الإطار السلطوي الذي كان قائماً، مع تجاوب لمطالب ورغابات الثورة الشعبية .

ومعروف أنه في مثل هذه الظروف يبدو الاستقطاب والتجاذب والتناغم أو اختبار القوة حاضراً . أما غير المعروف فهو المآل الذي ستؤول إليه الثورة الشعبية . وهناك سيناريوهات متعددة لا يمكن الرهان على واحد منها فقط، أو الجزم بأنه السيناريو الذي يفرض نفسه على الواقع . فقد يدب الخلاف أو حتى الاختلاف في وجهات النظر بين قيادات الثورة الشعبية في وضع تبدو فيه هذه القيادات وكأنها وليدة اللحظة وإن جمع بينها الشعور بوطأة الظلم والفقر والحرمان، في ظل طغيان الفساد والاستبداد، ولكنها ليست مؤسسة على قاعدة منهجية صلبة لها مسارها الواضح، واستراتيجيتها الواضحة، وأدوات الانضباط والالتزام المؤسسي .

ومن ناحية أخرى قد ينزع العسكر إلى الاستئثار بالسلطة، إن ثارت شهيتهم لها، وبأيديهم ناصية القوة، وإن كان عليهم أن يأخذوا دروس اللحظة التاريخية الراهنة في الاعتبار .

ومن ناحية ثالثة، قد تجمّع بعض أطراف الإطار السلطوي الذي كان قائماً قواها تحت مسميات جديدة، وتدخل الحلبة السياسية، في محاولة للوصول إلى مواقع نافذة أو متنفذة في إطار مستقبلي للسلطة . وهي بالطبع قوى مناهضة ومناقضة ورافضة لكل التوجهات الجديدة ورغباتها ومطالبها . وهدفها إعادة الوضع إلى ما كان عليه أو قريباً منه، ولكن بإطار جديد شكلاً . ويظل للقوى الخارجية المتمثلة بصورة خاصة في الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، محاولات دؤوبة ومستمرة، لحكم مسار التطور الذي يتشكل والتأثير فيه أو احتوائه أو تغيير مساره أو اختطافه، تحقيقاً لمصالحها السياسية والاستراتيجية، ولديها من الوسائل والقدرات والخبرات ما تحاول الارتكاز عليه في سبيل تحقيق غاياتها .

ربما صاحب الثورة الشعبية في بدايتها الناجحة، كما في مصر وتونس، تفاؤل لدى قطاع عريض من المجتمع، أو ابتهاج بمرحلة قادمة، ستلغي مساوئ المرحلة السابقة، وتفتح الأبواب أمام وضع جديد تتمثل فيه الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان وسيادة القانون واستقلال القضاء كما تتمثل فيه العدالة الاجتماعية، ويلجم الفساد، وتتقلص البطالة والفقر، وتزداد مساحة الرفاه الاقتصادي . وقد يكون مرد هذا التفاؤل والابتهاج الانطباع بأن إسقاط الإطار السلطوي يعني أن كل هذه الأهداف والمطالب والمطامح ستتحقق على صعيد الواقع . وربما غاب عن البال في كثير من الأحيان أن كل ذلك لن يتحقق تلقائياً وأن المخاض طويل وربما كان عسيراً للوصول إلى تلك الغايات في ظل تعقيدات متعددة ومفاجآت وتذبذبات وصعوبات وعوائق . وأن التاريخ حافل بالشواهد التي ربما نجحت فيها بعض الثورات في تحقيق أهدافها، وربما كان النجاح في بعضها قاصراً، وربما كان مؤقتاً، وربما آلت النهاية إلى وضع خرجت فيه عن المسار وعادت الأمور إلى سابق عهدها .

إن بعض المتفائلين والمبتهجين بما ستحققه الثورة الشعبية يظلون قلقين ويحسبون حساباً للمستقبل، ويدركون أن الطريق محفوف بالمخاطر، وأن محاولات الالتفاف على الإطار الذي يأخذ في التشكل حالياً أو الإجهاز عليه مسألة يجب أن تكون دائماً في الحسبان .

ومعروف أن أي حركة للتغيير لا يحكم عليها ببدايتها وإنما باكتمال نضجها وتحقيقها غاياتها وبنائها قاعدتها الصلبة وأطرها المؤسسية التي تحقق لها الاستمرارية، وتمكنها من أداء دورها، والاحتفاظ بحيويتها .

إن المآل الذي ستؤول إليه الثورة الشعبية هو المقياس لنجاحها، والبدايات أو حتى ما بعد البدايات وقبل إكمال الطريق، ليس مقياساً للنجاح، حتى ولو غلب التفاؤل أو الابتهاج بالبدايات .

ويظل التفاؤل والابتهاج في البداية مبرراً، لأنه يعكس رغابة جامحة في الخلاص من حقبة شديدة الوطأة، وأملاً منطلق العنان لمستقبل واعد، وهو وليد لحظته التاريخية وليس أبعد من ذلك، كما يظل القلق مبرراً لجسامة التحديات المستقبلية .