العلامة هاني فحص

وعد الرئيس نوري المالكي العراقيين (ووعدنا أيضاً) بأن يستكمل تشكيل حكومته وتأهيلها خلال مئة يوم بعد التشكيل الناقص. ومضت المهلة ومضى عليها أسابيع وقد تمضي أسابيع أخرى أو شهور، ولم ينجز ما توقعه كل المختلفين أو المتفقين مع دولة الرئيس، مع ما راهن عليه كثيرون من فشل بمعنى عدم كفاية استكمال الحكومة لأن يكون حلاً لتعثرات العملية السياسية والادارة والتنمية. ووضع اللمسات اللازمة على الخيارات السياسية في واقع عراقي مضطرب وواقع عربي وحوار أشد اضطراباً وحاشد بالبشائر والنُذُر معاً. غير ان هذه التعقيدات، أو ما يمكن أن يسمى فشلاً أو عدم قدرة على تحقيق الوعد، لم تمكّن معارضي السيد المالكي ولا المتربصين بحكومته ورئاسته من أن يستخدموها في تحقيق ما فكروا فيه طويلاً معاً، أو كل منهم على حدة وبلهجات تتفق وتختلف، وما يجمعها ظاهراً أكثر وأقوى مما يجمعها واقعاً، ولعل الذي حصل هو أن السيد المالكي اصبح أشد تمكناً مما كان يمكن أن يحصل لو وفى بوعده، لأنه وضع خصومه الذين غابوا عن السلطة التنفيذية أو حضروا فيها (وكأنهم منشقون) أمام اختبار أو تحدٍ لأهليتهم السياسية، بعدما استطاع أن يحول المنافسة على أساس عدد المقاعد النيابية بينه وبين القائمة العراقية مثلاً الى اشكالية للقائمة نفسها، بحيث أصبحت المخاطر التي كانت تهددها بسبب تكوينها على مقتضى السب من دون مشروع حقيقي مشترك، اصبحت مشهداً فعلياً أبرز مظاهره الشتات والتشرذم وتعدد الخيارات وتناقضها، وتحول قسم كبير منها الى فاعل في معالجة القوة لصالح الرئيس المالكي في حين المالكي تصرف مع أكثرية أخرى هي القائمة الصدرية بتوسيع نصيبها في قرص الوزارة وعندما اضطرب الاداء لأسباب كثيرة منها ضخامة حجم الوزارة وعديد الوزراء، طرح الترشيق فدفع التيار الصدري الى التعبير عن ارادته في التخلي السخي عن القسم الأكبر من نصيبه في الوزارات، وكأنه أشعره بأنه مسؤول عن الورم الحكومي... وكأن المالكي قد نقل معركته مع التيار الى داخل التيار الذي يستفزه أكثر من المالكي، ذلك الانشقاق المرعي عن جسمه والذي يشكل مصدر ارباك للتيار في قناعته العميقة بضرورة الاستمرار الأميركي في العراق، والتي لا يجاهر بها حذراً من اشكالات تسببها عصائب أهل الحق، اذا لم يبادر الطرف الداعم لها والمتوغل بيده في التيار، ولو في اللحظة الأخيرة، الى ترتيب عملية تبادل المصالح بينه وبين واشنطن على ضوء النهاية السعيدة أو الحزينة للأزمة السورية وارتفاع حرارة الصراع على العراق بعده.
واستطاع المالكي بعملية مركبة وجريئة أن يجهز على اسم كان احتمالاً قوياً في العراق وظل يتراجع بفعل مغامراته وتبديل ولاءاته ونرجسيته حتى أصبح من السهل شطبه من موقع القوة وعلى موجبات مسوَّغة... فعاد أحمد شلبي ليرتاح في لندن، كما قصدها الرئيس أياد علاوي ليعود الى بغداد ريثما يرجع اليها وتعويض حزنه السياسي بالفرح العائلي.
اما المجلس الاعلى، فالى كونه يشكو من انه لم يرق بتنظيمه من محورية ذات اشعاع لا ينكر الى جماعة سياسية حقيقية، حزبية تستطيع ان شاءت أن تكون أكثر مرونة من الحزب، ولكنها مضطرة الى البنية الحزبية حتى لا تتحول الى محاور تحكمها الأمزجة وتنتهي بالتالي الى أفراد تبقي العلاقات في ما بينهم أقرب الى شكل الجبهة من مضمون الكتلة.. ومن أول يوم لرئاسة المالكي الأولى أدرك أن المشروع السياسي الحقيقي انما يتبلور ويقوى ويستمر اذا أحسن استخدام السلطة التنفيذية بما هي حيز لبناء أنظمة المصالح ولو على أساس الانجاز القليل المعضود بزبائنية سياسية واسعة تؤمن العصبية اللازمة... ومن هنا تم ترحيل الدكتور الجعفري الى رئاسة الائتلاف من دون فاعلية أو دور لتبقى دولة القانون مصنع القرار ومصدره تماماً كما كانت حركة فتح في منظمة التحرير، وكما كان صدام حسين ومجلس قيادة الثورة في الدولة وحزب البعث؟ وفرض المالكي سلطته بمن فيها من النواب في رئاسة الجمهورية، فارضاً خضر الخزاعي رداً للجميل ودرءاً للمشاكل، ليجعل نيابة الدكتور عادل عبد المهدي مفيدة أو محاصرة بالتمددات التنفيذية على المؤسسة الرئاسية... ما لم يكن وحده وراء استقالة الدكتور عادل.. والذي يعني، ومن خارج مقاصد الدكتور عادل أيضاً، زيادة نسبة حضور المالكي في هيئة الرئاسة.
أما أسامة النجيفي وحساسيته القومية فهو وهي محكومة بالمؤسسة التشريعية الأم، وتبقى شعاراتها الكيانية ردود أفعال ومداخل لتحسين المواقع في المعادلة التي يحكمها المالكي. وهنا سؤال يرد على النجيفي حول المستفيد الأول من النزوع الكياني لدى السنة العرب، وهل هذا يقع في سياق التوجه العربي في العراق؟.
هذا وقد استطاعت الطبقة السياسية الشيعية أن تقدم بأدائها هدية عندما خيبت أمل المرجعية وجعلتها أقرب الى منع تفاقم الشر منها الى تحقيق الخير... فأصبح المالكي أكثر استشعاراً لحريته من دون أن يكون أكثر من شريك عادي في تحمل الملاحظات والمؤاخذات.
صورة العراق تقول بأن المالكي قد اصبح بالنسبة الى خصومه السياسيين مشكلة لا حل لها، فما الحل؟ أنا أغامر وأقترح من دون تفصيل قد يأتي... أن تعجل الأطراف العراقية المختلفة مع المالكي الى التفاهم فيما بينها والتفاهم بالنهاية على تعاونها مجتمعة مع المالكي في بناء الدولة حيث يصبح اتفاق هذه الأطراف وتعاونها مع المالكي من موقع الاختلاف معه، من أهم مؤهلات أي طرف للاستمرار في موقعه الفاعل ونمو فاعليته وحضوره وشراكته بشكل مشروع. وحينئذ تأخذ المنافسة مع المالكي مساراً قد يؤدي الى استمراريته من دون هواجس بالانفراد والتفرد، أو مساراً يؤهلها لأن تقدم البديل الناجع ولو نسبياً، من دون أن تتهم بالتخريب أو الكسل أو الفشل الذهني أو الكلوي والسفر المتكرر الى دول الجوار لغسل الكلى.
أما الأكراد فانهم لا بد أن يتدبروا أمرهم بعدما أغراهم المالكي بالسخاء في العروضات التي قدمها على طريقه الى الرئاسة ثم استطاع ببراغميته المحترفة أن يتنصل من دون أن يكون لومه قوياً أو متاحاً... وهذا يستدعي ايضاً أن يسعوا الى تفاهمات لانقاذ الواقع العراقي وضمان دورهم الوازن.
أريد أن أعيد ما قلته في أكثر من مكان وموقع عراقي، من أربيل الى بغداد الى النجف، بأن العراق بحاجة الى كتلة تاريخية تصون حق الاختلاف في ما بينها بالاتفاق على بناء الدولة بالشراكة، لا بناء السلطة بالتفرد... فان لم تبادر القوى السياسية الى تشكيلها بشكل مرن بعيد عن أشكال وآليات الأحزاب المكونة لها، وبأسلوب يوسع مفهوم الطبقة السياسية أو الكتلة التاريخية بحيث تتعدى الطبقة الحاكمة والمعارضة من داخل السلطة أو خارجها، فان مؤسسات المجتمع المدني العراقي الناجزة أو التي ما زالت في حالة نواة مطالبة بالمبادرة الى تكوين حالة من سلطة أو دولة الظل الموازية للدولة لا بمعنى عدم الالتقاء، بل بمعنى المغايرة التي تؤهلها لأن ترى وتقترح وتضغط سلمياً على السلطة من أجل الدولة.. والا صار من حقها اذا اكتملت فاعليتها أن تهدد القوى المختلفة بمشاركتها ديمقراطياً أو الحلول محلها ان أمكن واقتضت مصحلة العراق. ويبقى هذا الأمر مطلباً وطنياً سواء استقامت الأمور أو بقي الكيد المتبادل والشتات المعارض المغرى بالتفرد سائداً أو غالباً.
يهمني أن أنبه أخيراً الى أن جميع الأشقاء والأصدقاء وشركاء الأمر الواقع قد أبدوا قناعتهم وبلغوها ثم تراجعوا عنها لفلان من القيادات السياسية العراقية وفلان وفلان لأنهم موضع قبولهم وتشجيعهم على ترؤس الوزارة العراقية، ولكنهم أجمعوا على نوري المالكي الذي لم يقصر في احراجهم وكشف تدخلاتهم من العيار الثقيل في العراق، ولم يقصر في تحقيق نسبة من الأمن قبل سنوات على حساب حلفاء بعضهم الذين عادوا فألزموهم به عندما لم يقصر كأي محترف سياسي في تقديم نفسه لهم بديلاً قابلاً للتفاهم معهم على اختلافهم وتناقضهم أحياناً... وهذا يستدعي من الجميع العودة أو الارتداد نحو الداخل لتدبر عملية سياسية أشد تركيباً وأقل تبسيطاً وأكثر شجاعة في بناء التحالفات على برامج لا مجرد اعتراضات وعلى نية في جعل المشاركة مدخلاً اختيارياً، الى كونه خياراً وحيداً، الى عراق مستقر وقوي ونامٍ وفاعل... هذا وأنا أعلم أن هذا الكلام يثير حنق أو غضب كثير من التطهريين العراقيين الذين احبهم وأشاركهم مشاعرهم التي يجرحها ويغضبها استشراء الفساد والبطالة الحكومية التي تضاعف أعداد العاطلين عن العمل في العراق الغني بكل شيء... ولكني أعتقد أن الطبقة السياسية بكل ألوانها هي المسؤولة عن الأزمات العراقية كلها، سواء بالفعل والمشاركة فيها أو عدم المشاركة بسبب القصور أو الاكتفاء بالتنديد من دون تسديد.. وفي رأيي أن الشقاق السياسي الذي يقرب في مشهده من العبثية هو البيئة الملائمة لنمو الفساد والبطالة وتوسعهما عمقاً وأفقاً، في حين أن وحدة ما أو تضامناً ما أو شراكة ما أو تأجيلاً للتناقضات الحقيقية والمفتعلة من شأنه أن يشكل بيئة بديلة ويكون حاضناً وملزماً بالحد من الفساد والعطالة على اسوأ الاحتمالات.
هذا وليس من الضروري أن يبقى الرئيس نوري المالكي قادرا ساعة يشاء وباللطف المباشر وغير المباشر أو بالعنف المباشر وغير المباشر على تحويل الطامحين السياسيين بافراط أو خيال جامح الى حالة فردية تنتهي الى العزلة التي تشجعه على عزلها واقصائها من دون اعتراض أو ضجيج.
وليس من السياسة أن نذهب الى المؤاخذة التي تقترب من الأخلاقيات العامة من دون أن تكون وثيقة الصلة بآليات العمل السياسي وأنظمته المتعارفة، فنتسلى بالقول بأن المالكي شخصاني في الادارة على مستوى الدولة ومستوى كتلته النيابية أو حزبه، هذا ومع أننا كلنا ننطوي على نزوع الى الشخصنة، فان العمل الحزبي العربي والاسلامي لم يثبت حتى الآن انه قابل للجماعية، بحيث تصبح الشخصنة ضرورية جداً. ولا يخفف منها الا تشكيل كتلة تاريخية عراقية تعددية تكون مكاناً للتدريب على الديموقراطية والمشاركة والتبادل والتداول والمعارضة الفعالة.
ختاماً، أنا أشك في قدرة الأطراف السياسية المعارضة في العراق كلياً أو جزئياً دائماً أو الى حين ما وبناء على العروض التي تقدم لها، أن تبقى على تماسكها وحيويتها على أساس الشقاق مع المالكي وفريقه أو مع سائر الأفرقاء بنسب متبدلة من دون أن يغيب هذا لأنه عرف سياسي... بل ربما كان الوفاق لا الذوبان ولا الالتحاق أو الاستلحاق أو الاختراق ولا التسليم الكامل أو الاذعان، هو الأكثر فاعلية في تماسكها واستمراريتها لأنه لقاء على مشروع ايجابي لا على سلوك أو انفصال سلبي... والايجاب يحتمل السلب دائماً.. هذا مع قناعتنا بأننا في العراق لسنا أمام أطراف قوية في الموالاة والمعارضة، بل نحن أمام ضعفاء بعضهم اضعف من بعض لا بحيث يتيح ذلك للأقل ضعفاً أن يعتبر نفسه قوياً. ومن هنا يحاول الجميع أن يستقووا على ضعفهم بالتحالفات المتنقلة مع هذا الطرف الضعيف أو ذاك ليعود كل منهما ليستقوي على الآخر بضعيف آخر. ان الطريق الى التمتع بقوة شرعية وفاعلة هو تقوية العملية السياسية بالتعاون على أساس الاختلاف أو بالاختلاف على اساس التعاون من دون ضرورة لاستيراد القوة وبأسعار وطنية وسياسية باهظة معجلة ومؤجلة مع حيز واسع لخدمة الديون على حساب الرصيد الوطني... استيراد القوة من دول غير صديقة ودول صديقة وشقيقة لا تشكو من زيادة على الاستهلاك المحلي في قوتها، وان كان توظيفها وطنياً يجنبها كثيراً من الأزمات الاجتماعية ويساعدها على تحقيق وعودها في النمو والرفاه والعدالة الاجتماعية... لا نشكو ولكننا نعاني من هذه القوة الفائضة التي تحتاج الى فيض عقلي يمنع هدرها أو استخدامها في تأمين النفوذ بدل الدور في بلاد أخرى لأن الدور يستدعي المشاركة على أساس الصداقة والتكامل لا الاستتباع والاملاء... يمنع هدرها وهدرنا بهدرها... علماً بأن سيرة كل الأطراف التي صدرت قوتها الى أطراف سياسية معارضة تقول بأن عينها كانت على الأنظمة لان مصالحها العليا معها وليست قوى المعارضة الا وسيلة.
علماً بأن العراق يملك من اسباب القوة ما لا يملكه غيره من أشقائه وجيرانه ولا يحتاج الا الى وفاق يضع حداً لقرار الضعف أو العجز ويبعث كل طرف على تخطي ضعفه الذاتي بالاستقواء بالغير... بل ان نقوى معاً بالعراق ونقوى به ونأخذ عبرة من تاريخ صدام حسين الذي استشعر القوة العضلية للعراق وغيّب القوة العقلية والابداعية والحضارية وأرسل فائض قوته الى هنا وهناك وهنالك واستهلكها في مغامرته المشبوهة أو مقامرته بالعراق في الكويت فجدد رهن العراق لجميع المختلفين على نفوذهم ومصالحهم فيه.
ملاحظة اخيرة: هناك نقطة قوة تضاف الى قوة السيد المالكي الآن. وقد تكون من اسباب ضعف العراف، وهي ان ايران التي يضعف املها باستمرارية حليفها السوري، حتى على تقدير بقائه في الحكم على حريته في التحالف المطلق معها، مع احتمال ان تكون سورية المستقبل وعلى اي حال مجالاً لدور تركي متميز من دون ان يبقى ويخلو من التعقيد، ولا يبقى لايران الا ان تعوض خسارتها في العراق من خلال تظهير وتوثيق علاقتها بالاطراف العراقية التي يهمها ان تستقوي بالنفوذ الايراني داخلياً او دولياً من دون قدرة الاطراف المعارضة لذلك، على ان تواجه هذا الخطأ الا بخطأ آخر قد لا تكون الظروف العربية مؤهلة لتصويبه او تصليبه.