يوسف عبدا لله مكي


تطالب بعض القوى والأحزاب السياسية المشاركة في الحكم، بتمديد فترة وجود الجيش الأميركي، تحت ذريعة أن مؤسستي الجيش والأمن ليستا في كامل جاهزيتهما. في حين ترى القوى الوطنية أن احتلال الأميركيين للعراق عمل باطل

لم يعد موضع جدل أن الهدف من الاحتلال الأميركي للعراق، لم يكن تحديثه أو quot;دمقرطتهquot;. ولم يخالجنا شك في أن ذلك كان مقدمة quot;لبلقنةquot; المنطقة بأسرها. الآن بعد أكثر من ثماني سنوات على احتلال أرض السواد تتكشف الحقائق، ويمضي مشروع الهيمنة قدما في تحقيق أهدافه بإشعال الحرائق في عدد من البلدان العربية، تحت يافطات مختلفة، تحمل شعارات نبيلة، ولكنها في نتيجتها، تنفذ بدقة ما وعد به وزير الدفاع الأميركي، رامسفيلد من تعميم للفوضى الخلاقة.
ليس بسر أن عددا من البلدان العربية، تشهد ما يقترب من الحروب الأهلية، في الصومال والسودان وليبيا واليمن وسوريا... ولن يكون مستبعدا أن تنضم أرض الكنانة، بعد ما شهدته الأيام الأخيرة، لهذه البلدان، والقائمة مفتوحة.
لم يعد الهدف القديم لقوى الهيمنة، من تأمين أنظمة موالية، وضمان استقرار هذه الأنظمة قائما. لقد انتقل ذلك إلى مرحلة، لم يعد مهما فيها أن تكون الأنظمة العربية موالية لإدارة السيد القابع في البيت الأبيض وحلفائه في أوروبا الغربية. فالتفتيت في هذه المرحلة أصبح هدفا في ذاته. ولكي لا نستغرق في التعميم، أمامنا ليبيا المفتتة إلى أربعة أجزاء، واليمن التي تتنازعها وتقذف بها أطراف محلية تستمد قوتها من تحالفاتها الاقليمية والدولية. وانقسام السودان إلى دولتين، أمسى أمرا واقعا، اعترف به العالم، وأضيف بموجب هذا الاعتراف دولة جديدة للأمم المتحدة. والوضع مرشح لقيام دولة أخرى في غرب السودان بمنطقة دارفور.
هذه المقدمة تقودنا إلى الجرح النازف في أرض السواد. فمشروع التفتيت بدأ مبكرا بعد الاحتلال مباشرة، تحت يافطة الفيدرالية. والفيدرالية بالطريقة التي طرحت بها في العراق، تعني ترسيخ الولاءات الطائفية والعشائرية والاثنية، والغياب الكلي لمفهوم المواطنة، وإقامة نظام مبني على القسمة والمحاصصات بين البنيات الاجتماعية القديمة، المعادية لمشروع بناء الدولة الحديثة. ولم يكن طرح هذا النمط في إدارة المجتمع اعتباطا أو صدفة، بل عن عمد وسابق إصرار. وقد أفصح عن ذلك لاحقا مشروع نائب الرئيس الحالي، جوزيف بايدن لتقسيم العراق، الذي تبناه الكونجرس الأميركي، في قرار غير ملزم. فهذا القرار في جوهره وغاياته في إلغاء كيانية الدولة العراقية، لا يختلف كثيرا عن وعد بلفور الذي هدف إلى إلغاء كيانية فلسطين.
ولأن مشاريع التفتيت تتطلب وجود قواعد موضوعية تمثل شروطا لازمة لنجاح هذه المشاريع، كان لا بد من تصعيد حالة الاستعار الطائفي من جهة، وإعادة العراق، كمكون ووجود إلى مرحلته البدائية، ليسهل تدمير بنيته، ولكي يتمكن المحتل من وضع السياسة في مقابل التاريخ. وكان تعميم المحسوبية، وإشاعة الفساد، الذي بلغ حدا جعل العراق، عالميا في أعلى قائمة الموبوئين بهذه الآفة.
من يصدق على سبيل المثال، أن دولة كبرى، كالولايات المتحدة الأميركية، لا تستطيع إعادة الكهرباء بعد ثماني سنوات، لبلد غني بالنفط، لا يتجاوز في حجمه وتعداد سكانه حجم ولاية تكساس. وبالمثل يصح قول ذلك على موضوع عودة مياه الشرب النقية، وبناء شبكات المجاري، وتقديم الخدمات الصحية والتعليمية، التي تراجعت كثيرا أثناء فترة الاحتلال.
ربما يجادلنا البعض، بالقول إن اندلاع العنف في العراق بعد الاحتلال، هو الذي حال دون إعادة إعمار العراق، وإعادة الخدمات الأساسية له، واستكمال بناء مؤسسات الدولة. وهذا القول رغم عدم دقته، لكننا نقبل به كمبرر في السنوات الأولى للاحتلال حتى عام 2006، حين أعلن عن تشكيل الصحوات، وحدث بعدها تراجع واضح وملحوظ في عمليات المقاومة الوطنية العراقية ضد الأميركيين والذين تعاونوا معهم في تدمير ما بين النهرين كيانا وهوية. وقد مضى على تراجع عمليات المقاومة أكثر من خمس سنوات، هي بأكثر التقديرات تشاؤما كافية لإعادة إعمار البلاد. لكن ذلك لم يكن مطلقا في أجندة الفتح الامبراطوري الأميركي.
الآن تتسارع الأحداث في أرض السواد، وترتفع مجددا وتيرة العنف في هذا البلد الجريح. ويحتدم الجدل بين القوى السياسية العراقية، التي ارتبطت بالعملية السياسية حول موضوع الانسحاب الأميركي من العراق. وكان انسحاب القوات الأميركية من العراق، من المواضيع الأثيرة لدى الرئيس، باراك أوباما، أثناء حملته الانتخابية للوصول إلى البيت الأبيض. وقد تضمن برنامجه الانتخابي وعدا بسحب قوات بلاده من العراق، وتركه لأهله ليقرروا مستقبل بلادهم بالطريقة التي يرونها. وإثر فوزه بالبيت الأبيض، أعاد أوباما، في حفل تنصيبه تكرار ما وعد بتنفيذه أثناء حملته الانتخابية. وأوضح أن احتلال الأميركيين للعراق كان اختيارا خاطئا، أما أفغانستان، فإن بلاده شنت حربا عليها مكرهة، لمواجهة إرهاب القاعدة. وفي وقت لاحق من عامه الأول في كرسي الرئاسة، حدد الرئيس الأميركي، نهاية هذا العام موعدا لانسحاب جميع القوات الأميركية من العراق.
تطالب بعض القوى والأحزاب السياسية المشاركة في الحكم، بتمديد فترة وجود الجيش الأميركي، تحت ذريعة أن مؤسستي الجيش والأمن ليستا في كامل جاهزيتهما للدفاع عن البلاد وتأمين استقرارها. في حين ترى القوى الوطنية أن احتلال الأميركيين للعراق هو عمل باطل، وأن ما بني عليه باطل، وتطالب بانسحاب فوري للقوات الأميركية من البلاد.
مناقشة مواقف القوى السياسية العراقية المختلفة من موضوع الانسحاب الأميركي من العراق، لن تكون دقيقة ما لم يتم التعرف على القوى الفاعلة في العملية السياسية، ومصلحة كل منها في بقاء أو رحيل الجيش الأميركي من العراق. إن القراءة الأولية لخارطة القوى السياسية الفاعلة بالعراق، منذ احتلال بغداد حتى يومنا هذا، تؤكد أن نظام إيران، هو صانع معظم هذه القوى وموجه حركتها. ولذلك فإن قراءة مواقفها، على أهميتها لن تكون دقيقة ما لم يتم التعرف على حقيقة الموقف الإيراني من الانسحاب الأميركي. إن التركيز على موقف إيران، يأتي ضمن سياق موضوعي. فقد شاطرت إيران شاطرت الأميركيين المسؤولية في إدارة احتلال العراق، وتأمين الاحتياجات البشرية للعملية السياسية التي دشنها المحتل. ودفعت بأتباعها للمشاركة في الحكومات الانتقالية التي شكلها بول برايمرز. وأسهمت ميليشيات المجلس الإسلامي الأعلى، وحزب الدعوة في تدمير الدولة الوطنية العراقية، وشكلت العمود الفقري للجيش والأمن اللذين أسسا بعد الاحتلال.
موقف إيران والقوى السياسية العراقية، سوف يكون موضوعا لحديثنا القادم بإذن الله.