الحسين الزاوي

عرفت معظم دول المغرب العربي أشكالا متنوعة من التعددية السياسية والحزبية أثناء الاحتلال الأجنبي وتحديداً الفرنسي للمنطقة، وذلك قبل أن تدخل في زمن الاستقلال وبناء الدولة الوطنية، في مرحلة جديدة من الأحادية الحزبية في أغلب دوله، باستثناء المملكة المغربية التي بقيت محافظة على نوع من التعددية الحزبية في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، ولكنها كانت،في نظر الكثيرين، بمنزلة تعددية فارغة من أي مغزى سياسي حقيقي إلى أن بدأت ملامح التحول في البروز أثناء مرحلة التسعينات من القرن الماضي، حيث بدأت المملكة تعرف انفتاحاً حقيقياً على مؤسسات المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان . وجاءت فترة حكم الملك الشاب محمد السادس لتعطي لهذا الانفتاح دفعاً جديداً وانطلاقة جدية، كان من نتائجها إجراء تقييم شامل للمرحلة السابقة التي ذهب ضحيتها الكثير من المعارضين السياسيين، سواء من الحركات اليسارية في مرحلتي السبعينات والثمانينات، أو من التيار الإسلامي، ممثلاً بشكل أساسي في جماعة العدل والإحسان، في فترتي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي .

ودخلت المملكة عهداً جديداً من التعددية السياسية وحرية التعبير مع مطلع الألفية الثالثة، حيث تقدمت التجربة الديمقراطية المغربية بخطوات واثقة، وعرف المشهد السياسي تنوعاً كبيراً عكس بشكل كبير توجهات معظم التيارات الفاعلة التي تعبر عن الآراء المختلفة للمواطن المغربي، حيث إنه ورغم بعض التفجيرات الإرهابية التي كان المغرب مسرحاً لها إلا أن الحركة الإسلامية ذات التوجهات الوسطية والمعتدلة تمكنت من فرض وجودها على الساحة السياسية، إذ أصبح حزب العدالة والتنمية من بين الأحزاب القوية والفاعلة في المعترك السياسي المغربي . ويرى قسم كبير من السياسيين أن التعديل الدستوري الأخير الذي أقره المغاربة من خلال الاستفتاء الأخير، يمثل خطوة أخرى نحو الأمام باتجاه ترسيخ قيم الديمقراطية ودولة الحق والقانون، حتى وإن كان قادة حركة 20 فبراير لا يرون فيه تقدماً حقيقياً نحو تجسيد حلم الملكية الدستورية، لكون هذا التعديل يُبقي على الصلاحيات الكبرى خاصة العسكرية منها بيد الملك .

أما الجزائر فلها خصوصياتها التي تجعلها مختلفة اختلافاً لافتاً عن جيرانها في ما يتعلق بتطور ونضج التجربة السياسية والتعددية، فقد ظلت طوال السنوات الأولى للاستقلال وفيَّة لما كان يُسمّى في الأدبيات السياسية، بالشرعية الثورية الموروثة عن حرب التحرير التي قادتها جبهة التحرير الوطني بجناحيها العسكري والسياسي، وظلّت تهيمن على المشهد السياسي إلى غاية نهاية الثمانينات من القرن الماضي، وهي الفترة التي خاضت فيها الجزائر تجربة تعددية سياسية وإعلامية رائدة قياساً بما كان سائداً من كبت سياسي وتضييق إعلامي في دول المنطقة، غير أن الأخطاء السياسية التي ارتكبتها الطبقة السياسية أدت إلى وأد هذه التجربة، وإلى حدوث انتكاسة كبيرة في هذا المشهد التعددي خاصة بعد أن اشتط أقوى تيار إسلامي في مطالبه، ودخلت البلاد مرحلة طويلة من انعدام الاستقرار السياسي ما زالت نتائجها تُرخي بظلالها القاتمة على المشهد العام . وقد حاولت السلطة مؤخراً أن تعطي ديناميكية جديدة للحراك السياسي من خلال تقديم حزمة من الإصلاحات السياسية والدستورية، إصلاحات حكمت عليها أغلب القوى المعارضة حكماً مبرماً من خلال تأكيدها أنها لا تمس جوهر النظام وتسعى فقط إلى تلميع صورته وإلى كسب مزيد من الوقت في مواجهة الضغوط الدولية . وعليه فإننا نزعم هنا أن مشكلة الجزائر كانت وربما ما زالت تكمن في أن كل الأطراف سواء كانت في السلطة أو المعارضة تتمسك في الأغلب بمواقف تتسم بالكثير من الجذرية، كما أن الأطراف المعارضة تقدِّم للخارج صورة شديدة السواد عن الوضع الداخلي، وترفض دائماً البناء على ما هو متوافر من إمكانات، كما ترفض بالقدر نفسه تثمين ما تحقق من إيجابيات، لأن معظمها لا يريد أن يكون شريكاً بقدر ما يسعى إلى أن يكون بديلاً كلياً وشاملاً يمسح كل ما على الطاولة، وذلك ما يجعل بعض الملاحظين الأجانب يستنتجون أن أسوأ طرف يمكنه أن يُنجز تقييماً موضوعياً للحالة الجزائرية هم الجزائريون أنفسهم .

وتمثل ثورة 14 يناير في تونس المحطة الأبرز في مسار التجربة الديمقراطية في دول المغرب العربي، وينتظر الجميع أن تكون هذه التجربة الوليدة محرِّكا ومهمازاً حقيقياً للمشهد التعددي المغاربي، خاصة أن تونس وبالرغم من الانغلاق السياسي الذي عرفته في مرحلتي حكم بورقيبة وابن علي، إلا أنها استطاعت أن تكوِّن مجتمعاً مدنياً هو الأبرز على مستوى الدول المغاربية، وينتظر من هذا المجتمع أن يقود هذا التحول الديمقراطي من دون مساس بالمكاسب التي تم تحقيقها على مستوى تحديث المجتمع وتحقيق أكبر قدر من المساواة بين الجنسين . ويتمنى التونسيون أن تكون المواقف السياسية الحالية لكل الأطراف الفاعلة، والمتسمة في مجملها بالانضباط والالتزام بقواعد التعددية، أكثر من مجرد سلوك مرحلي وتكتيكي حتى لا يتم إجهاض هذه التجربة الرائدة . ويمكننا أن نقول في عجالة بالنسبة إلى الشأنين الليبي والموريتاني، أن المسار الديمقراطي في ليبيا لن يشرع في تنفيذ استحقاقاته بشكل ملموس قبل أن تضع الحرب أوزارها، وقبل أن يتمكن الشعب الليبي من تضميد جراحه، ومن إعادة الانسجام واللحمة الوطنية لكل مكوناته . أما موريتانيا فقد شهدت فيها التجربة الديمقراطية نوعاً من التراجع بعد الانقلاب الذي قام به الجنرال ولد عبد العزيز، ولم تفعل الانتخابات الرئاسية التي تم تنظيمها سوى إضفاء نوع من الشرعية السياسية والدستورية على هذا الانقلاب، ونعتقد بالتالي أن الحراك السياسي في المنطقة ستكون له تأثيرات إيجابية بالنسبة إلى مستقبل الديمقراطية والتعددية في هذا البلد .