القدس


'أنا أرحمه'، يقول البروفيسور سعد الدين ابراهيم، نشيط حقوق الانسان المصري المشهور، الفائز بـ 15 جائزة تقدير دولية وعشرات الاوسمة.
'ليس من السهل ان ترى فرعون مصر ملقى في سرير مرض داخل قفص حديدي. ولا سيما على من عرفه مثلي عشرات السنين. منذ أن نحي واحتجز توقعوا أن أُظهر الفرح وأن أعلن ان هذا ما يستحقه لكنني لست فرحا بل أرحمه'.
كان ملايين المصريين، الى أن أدخلوا يوم الاربعاء ظهرا، سرير المرضى الى القاعة رقم 1 في اكاديمية الشرطة التي كانت تسمى في الماضي باسم حسني مبارك واجري فيها أيضا آخر ظهور علني له قبل يوم من نشوب المظاهرات عليه، كانوا على ثقة بان الرئيس المخلوع سيغيب في اللحظة الاخيرة عن المحاكمة. وقد حاول محاميه أن يقنع قادة السلطة وهيئة القضاة بانه مباركا متعب وبأن نقله الى القاهرة سيعرض حياته للخطر، لكن بلا نجاح. فالحكام الجدد يريدون أن يشهد الشعب سقوط فرعون.
'لم أكن أنا ايضا متأكدا من أنه سياتي'، يقول البروفيسور ابراهيم ابن الثانية والسبعين.
صحيح، لدي حساب طويل معه لما اوقعه بي، ومع كل ذلك أشعر بشفقة عليه بسبب العذاب الفظيع الذي يجري عليه وعذاب المحاكمة الذي ما زال ينتظره. رأيت كيف يصغي مبارك الى التهم الخطيرة وسمعت صوته الاجش عندما قال لرئيس المحكمة: 'انا انكر كل شيء'. وليس من السهل أن يتبين لك انك مكروه الى هذا الحد وان تفهم انهم يريدون رأسك.
'عندنا مثل شعبي يقول: الشاة لا تشعر بالالم بعد ذبحها'، ومبارك قد حصل على عقوبته الحقيقية قبل صدور الحكم بكثير. أتمنى له أن يثبت للمحاكمة بصورة مشرفة، وأن يحصل على العقوبة التي يستحقها وان يمنحه الرئيس القادم العفو، وهكذا يكون واضحا أنه لا احد في مصر فوق القانون'.

لا حاجة. أنا المدعي العام

استمرت لعبة القط والفأر بين مبارك والبروفيسور ابراهيم 11 سنة. وفي ايامه الحسنة حظي بأوسمة من يد الرئيس. وفي الايام السيئة اعتقل ثلاث مرات وحقق معه وعذب وحكم عليه في محكمة أمن الدولة بسبع سنوات سجن.
'أنظري كيف يستطيع القدر تقليب الامور'، يقول، 'فجمال وعلاء مبارك اللذان كانا طالبين عندي يجلسان اليوم في الزنزانة التي رماني فيها والدهما في سجن طرة. ارسلوني الى الجناح الانفرادي، الى زنزانة تلاصق العيادة لمنع السجناء من الاقتراب مني. والان أصبحت هذه الزنزانة الصغيرة جدا تستضيف الاميرين اللذين يضطران الى النوم في سريرين واحد فوق الاخر.
'أتى اليّ احد السجانين وكنت أسميه رضا الشرير الى البيت قبل ثلاثة أشهر وترك لي رسالة عند البواب تقول: حساب الانتقام اغلق، وهبط الاميران في زنزانتك. وكان على ثقة بان هذا سيمتعني'.

ألم يمتعك؟

'شعرت بالاسى من أجلهما. فحينما تعلما عندي كانا شابين طيبين. ومع مرور السنين افسدتهما القوة'.
في حزيران 2000، في جنازة رئيس سوريا حافظ الاسد، استدعي البروفيسور سعد الدين ابراهيم، رئيس مركز ابن خلدون لحقوق الانسان والديمقراطية في القاهرة الى استديوهات التلفزيون السعودي 'اوربت'. وطلب اليه المذيع ان يصاحب ساعات البث الخاص الست بتحليل وان يتحدث عن دوائر معرفته بالحكام العرب.
'حينما سألني من الذي سيرث الاسد، بينت انه سيكون بشارا بالطبع. فحاول أن يجادلني وقال: 'لكن ليس له مكانة رسمية في سوريا'، وبيت له قائلا: 'سيرتبون له كل ما يحتاج اليه. وبعد اسبوع سينظمون في دمشق مظاهرات جماعية تطالب بتنصيب بشار، وستجتمع من الفور اللجنة المركزية لحزب البعث وتعلن انه 'بحسب مطالب الجمهور، اخترنا بشارا لمنصب مركزي في الحزب'. بعد ذلك سيعينونه رئيسا بعد أن يزوروا نتائج الانتخابات.
'وسألني المذيع كيف أعرف هذا الاجراء فقلت: هذه 'جمهوملكية'. وهي تأليف بين الجمهورية والملكية. وكل زعيم عربي يصر على البقاء في الحكم أكثر من عشر سنين ينظر اليه وكأنه مِلكه، وبحسب الشريعة الاسلامية يرث الابن البكر الجزء الافضل من الميراث.
'وسُئلت هل ما حدث في سوريا حالة شاذة أم سابقة؟ وبينت انها سابقة بالتأكيد. فبعد سوريا سيأتي دور الابناء الابكار في اليمن وليبيا والعراق'.
ويبين اليوم انه كان حذرا من ذكر مصر على عمد في بث يشاهده ناس كثير، 'لكن في تلك الليلة هاتفني محرر الصحيفة الاسبوعية السعودية 'المجلة' وقال: أثر فيّ التعبير اللغوي الجديد الذي طبعته وأريد أن تكتب لي افتتاحية العدد التالي. ستكون الجمهوكية هي الموضوع الاسخن في العالم العربي'. وضغط عليّ قائلا: 'اذكر ان هذا يوشك أن يحدث في مصر ايضا'.
بعد مرور اسبوع فوجيء البروفيسور ابراهيم بطرق عنيد لباب بيته في حي المعادي غير بعيد عن مسكن السفير الاسرائيلي، وغير بعيد ايضا عن سجن طرة. 'كان ذلك في العاشرة ليلا، وكنت متأكدا أن ابني اميرا الذي خرج للترفيه عن نفسه قد نسي المفاتيح. فتحت الباب فرأيت مجموعة كبيرة جدا من رجال غرباء. وأعلمني واحد منهم انهم أتوا لاجراء تفتيش في البيت. سألته أمعه أمر بالتفتيش من المدعي العام فأجاب: 'لا حاجة. فأنا المدعي العام، هشام بدوي'.
حينما انتهى التفتيش أخذوا ابراهيم الى مكتبه. 'وجدت السكرتيرة نادية مربوطة العينين ومساعديّ والمدير المالي يرتجفون خوفا. اعتقلونا جميعا وحققوا معنا فاستعملوا طرقا غير لذيذة كالمنع من النوم وبعد شهرين تلقيت 7 سنوات سجن'.
صودرت أعداد صحيفة 'المجلة' من منصات الصحف، 'لكنهم في المحكمة تجاهلوا المقالة واتهموني بتلقي تمويل أجنبي لعمل تآمري. وقالوا لي ان مباركا غاضب علي جدا وانه قذف زوجته سوزان قائلا: انظري ماذا يفعل بنا محاضرك. أنتِ أدخلته بيتنا، وعنده الان انتقاد على قدرات جمال. بعد لحظة سيبدأ الحديث عما نفعل في غرفة النوم'. صمتت سوزان وقال مبارك لها: يجب عليكِ ان تختاري بين محاضرك وابننا'. فقالت: 'افعل ما يجب عليك فعله'.
إلى أي حد كنت مقربا حقا من عائلة مبارك؟
'زرت بيتهم أكثر من مرة، وعندما دعيت سوزان الى مؤتمر دولية كانت تطلب اليّ أن اساعدها على كتابة خطبها'.

لا تجرؤ على العودة

احتجز البروفيسور ابراهيم كما قيل آنفا في الجناح الانفرادي. 'أخذ وضعي الجثماني يزداد سوءا وصعب عليّ السير. وضغطوا عليّ لارسل الى مبارك رسالة اعتذار ولاطلب العفو لكنني بينت انني فعلت ما فعلت باعتباري مواطنا يقلقه عدم وجود الديمقراطية في دولته ويقلقه الوطء العنيف لحقوق الانسان.
'حظيت بين الفينة والاخرى بزيارات سفير الولايات المتحدة في القاهرة، دان كيرتسل (فللاستاذ ابراهيم جواز أمريكي، بفضل زواجه من الدكتورة بربارة لثم ابراهيم). وأوصاني في الاساس بالا أغضب الرئيس وبينت له أنني أعارض خطة مبارك أن يورث ابنه السلطة'.
خليّ سبيله بعد ثلاث سنين، بعقب ضغط امريكي وخرج من السجن على كرسي عجلات. 'شعرت من الفور بان حياتي على خطر وقررت ان أخرج جاليا'.
انقضت سبع سني تنقله التي حكم بها على نفسه بين تركيا وقطر وبين جامعتي ديوك وهارفرد في الولايات المتحدة اللتين سارعتا الى منحه مكانة محاضر ضيف. لكنني 'اشتقت على الدوام الى مصر والى زوجتي وابني الاثنين، والى أحفادي والى الفور والطعمية، طعام المواطن البسيط'.
قاطعته وسائل الاعلام في مصر لكن البروفيسور ابراهيم اصبح في قنوات التلفاز الرائدة في الغرب ممن يُطلب اجراء المقابلات معهم. ولم يكف عن توجيه انتقاد على سلوك مبارك الاستبدادي وعلى فساد القيادة وعلى الارتباط بين المال والسلطة.
جرى في آب 2008 تحطيم رقم قياسي آخر حينما التقى جورج بوش في براغ، وأبلغت وسائل الاعلام أن نشيط حقوق الانسان الجالي أوصى الرئيس بتعليق المساعدة الامريكية لمصر، 'الى أن ينفذ مبارك اصلاحات ويلتزم ان يقود ديمقراطية حقيقية'. كلفت هذه المحادثة مصر 130 مليون دولار، واستشاط مبارك غضبا. وفي احاديث مغلقة دعا ابراهيم 'خائنا' و 'نماما' وأرسل اليه رسائل في صيغة 'لا تجرؤ على العودة'.
بعد شهر من اللقاء في براغ حكم على ابراهيم بسنتي سجن غيابي. 'ومرة اخرى'، يقول وعلى وجهه ابتسامة مرة 'لم استطع أن احلم بالعودة الى البيت. فقد علمت أنه في اللحظة التي أهبط فيها في المطار سيعتقلونني وربما تختفي آثاري'.

اعتمد على الاسرائيليين

بعد ثلاثة اشهر، في الولايات المتحدة، سيضعون على صدر البروفيسور ابراهيم لقب تشريف آخر 'محارب حقوق الانسان والحرية' مع نتان شيرانسكي، رئيس الوكالة اليهودية. ويقول: 'سألني مرتبو الحفل ألا يضايقني الحصول على الجائزة مع شيرانسكي فقلت من الفور انه لا مشكلة. فأن أعرفه وأعرف كتاباته جيدا وانني التقيته من قبل وزرته في اسرائيل'.
زار البلاد ثلاث مرات وحاضر في مؤتمرات اكاديمية في تل أبيب والقدس وحيفا. وسيأتي مرة اخرى في تشرين الاول. 'في 2007 أتيت مع مجموعة من أربعين طالبا جامعيا من الجامعة الامريكية في القاهرة. أخذتهم الى لبنان للقاء حسن نصر الله وبعد ذلك أتينا اليكم والى المناطق الفلسطينية لانه كان من المهم عندي ان يتعلموا ان يعرفوا اسرائيل من قريب وان يسمعوا عن الصراع العربي الاسرائيلي من جميع الاطراف'.
على مرور السنين اكتسبت في اسرائيل اصدقاء كثيرين تابعوا المحاكمة والسجن وقرروا عدم التدخل من أجلك.
'سأروي لكِ حكاية لا يعرفها الا قليلون: ان معرفتي بكم بدأت قبل زيارة رئيس السادات التاريخية للقدس في 1977. فقد دعت حركة سلام الان أربعة اكاديميين مصريين وانا بينهم، الى مؤتمر في اسرائيل. أردنا جدا أن نأتي وفجأة أتاني نائب الرئيس حسني مبارك فقال: 'لا تسافروا'.
'سألت: لماذا؟ فقال مبارك: لان السادات يعد مفاجأة كبيرة ولا يريد ان تفسدوها عليه. وسألت: أي مفاجأة، فقال لا اعلم لكنه منعنا من السفر. وآنذاك عندما شخص السادات الى القدس دعاني للانضمام الى الحاشية لكنني قلت له: أنا باقٍ في مصر بعد ان افسدتم الامر عليّ.
'ظننتم أن مباركا صديق كبير لاسرائيل لكن من عرفه من قريب علم أنه ليس شديد الحب لكم. فقد احتاج الامر مثلا الى وقت طويل لاقناعه بان يسميكم 'اسرائيليين' لا 'اليهود' كما أصر.
'تعالي اكشف لكِ عن أمر آخر غير معروف: بعد أن تولى مبارك السلطة وضغطتم عليه وضغط عليه الامريكيون ايضا ليزور اسرائيل، دعاني الى الحديث وحدنا. قل لي، طلب الرئيس، كيف أتهرب من الزيارة من غير أن اغضب الامريكيين ومن غير أن يزعزع الاسرائيليون ومن غير أن اثير عصبية معسكر السلام.
'طلبت منه بضعة ايام للتفكير في تعلة مقنعة ثم عدت اليه وقلت له: يا سيدي الرئيس، قل انه ما لم يوجد تقدم في الشأن الفلسطيني فانك لا ترى سببا لزيارة اسرائيل. وتمسك بهذا الامر تعلة. فهو سيقوي أسهمك في العالم العربي ويلقي الكرة في الملعب الاسرائيلي الذي يجب عليه أن يدفع ثمنا سياسيا عن زيارتك. وسألتي: فاذا حدث تقدم مهم في الاتجاه الفلسطيني؟ فقلت له: لا تقلق. اعتمد على الاسرائيليين فلا توجد عندهم أية نية للتوصل الى حل حقيقي مع الفلسطينيين'.

عد الى البيت من الفور

فاجأت اضطرابات ميدان التحرير البروفيسور ابراهم بين محاضرات في نيوجيرسي. 'خرجت زوجتي بربارة الى الميدان وهي تلبس صورا كبيرا لي مع ولدينا رندة وأمير، وأبلغتني ما يحدث. وآنذاك في العاشر من كانون الثاني حينما خطب مبارك خطبة التنحي، رفعها المتظاهرون الى المنصة واعطوها مكبر صوت وسألتهم بعربيتها اللكناء: أتريدون ان يعود سعد؟ فصاحوا مجتمعين: نريد جدا! ففتحت الهاتف المحمول وقالت: ادعوه. فصرخوا في مسمعي: عدت الى البيت من الفور.
'في تلك الليلة ركبت طائرة كانت مشحونة بالمصريين. وكانوا على ثقة بانني جزء من مسيرة اسقاط مبارك، ومرت الرحلة الجوية بمحاضرة من أسئلة وأجوبة فيما سيحدث. وعندما هبطنا أخذوني مباشرة الى الميدان ولفوني بدفء كبير'.
أُخمن انهم قبل ذلك ابتعدوا عنك.
'اختفى غير قليلين دفعة واحدة. لم يفاجئني ذلك ولا اشعر بالمرارة. وفاجأني اولئك الذين استجمعوا الشجاعة بالادلاء في المحكمة بشهادة لمصلحتي واولئك الذين قالوا انهم لا يصدقون أي اتهام لي'.
ألا تقلقك العلاقات التي تزداد برودا باسرائيل؟
'منذ عدت الى مصر، وأنا ينطبع في ذهني أنهم في النظام الجديد لا يشعرون بثقة كافية لاتخاذ قرارات وأسمع طوال الوقت انه توجد موضوعات مفتوحة. وهذا حال العلاقة باسرائيل ايضا. لكن انتبهوا الى أن النظام الجديد بيّن من الفور أنه لن يلغي اتفاق السلام بل ان الاخوان المسلمين اعلنوا بانهم سيحترمون جميع الاتفاقات الدولية.
'لا ارى ههنا كراهية لاسرائيل. من المؤكد أني أرى عدم اكتراث وعدم ودٍ. لكن تعالي نقل بصراحة: لا أحد في العالم يحبكم اذا لم تكونوا منتبهين. وفي هذا الشأن من المحقق أن مصر ليست شابة'.

يديعوت