طيب تيزيني
تثير محاكمة مبارك، تساؤلات عديدة وقاسية، وهي -أي المحاكمة- وإنْ ظهرت الآن وكأنها نهاية العقد، إلا أن النظر إليها في سياق الأحداث العربية الراهنة، يضعنا أمام سؤال كبير يفرض نفسه خصوصاً على مُنتجي الخطاب السياسي العربي: هل في ما أخذ يحدث منذ إعدام صدام إلى مرحلتنا هذه، ما يجعل الطواقم السياسية العربية تستنبط عبرة ما تتعلق بما نحن غارقون فيه من فساد وإفساد واستبداد؟ بل إن هذا السؤال يمكن توسيعه على نحو يشمل طواقم أخرى هي تلك التي تعمل في الحقول الإدارية، فيغدو على النحو التالي: هل ثمة مَنْ يتمكن من إعادة بناء quot;المؤسسات الإداريةquot; في معظم البلدان العربية على أساس المطالب، التي تطرحها حركات الإصلاحية العربية الراهنة؟
فالحديث عن تلك المؤسسات، يتصل بالنوايا التي تملكها النظم العربية إزاء مطالب الإصلاح الإداري، فلقد شهدنا، في سوريا مثلاً، عجزاً متنامياً في مواجهة تلك المطالب. وثمة ظاهرة تشير إلى أن حالة حادة من الفلتان الإداري تستحكم في الكثير من القطاعات الاقتصادية: إمكانية أن تبني ما تشاء من الأبنية العشوائية، مع quot;غضّ النظرquot; عن ذلك من قِبل الإدارات المعنية، علي اعتبار أن ذلك يخفف من وطأة النقد الذي يوجهه الكثيرون لأجهزة الدولة، في المرحلة الراهنة الصعبة المعقدة. ونعلم أن ذلك له تبعات سلبية، يمكن أن يكون منها خربطة مخططات المدن السكنية، بحيث تنشأ quot;مدن الصفيحquot; بأحيائها وشوارعها الصفيحية. وهذا ما عبّر عنه أحد الكتاب بـquot;مدن الملحquot;. ومع القول بأن هذه المدن إنما هي نتيجة لغياب quot;الدولة الراعيةquot; ومن ثم لهيمنة quot;الدولة الظالمة غير العادلةquot;، فإن ذلك يؤدي إلى زعزعة فن البناء والعمران وكذلك الذائقة الجمالية، العمرانية في المدن التي يهيمن فيها ذلك ضمن العالم العربي.
ها هنا، يُفصح عن نفسه نمط من الفساد الفني العمراني، كما تُستضمر درجة من الاحتجاج الاجتماعي السياسي ضد مَن يقف وراء هذا الفساد. ولْندقِّق في المشهد التالي، الذي يواجه المرءَ في تلك quot;المدن الظالمةquot;: قصورٌ فارهة يجري تخديمها بكل ما تحتاجه في الداخل والخارج، وأمامها على بُعد مائتي متر مثلاً تقوم أشباحُ أبنية يسكن فيها أشباه بشر يعيشون في بؤس فاحش، ويفتقدون حاجاتهم السكنية والغذائية بالحدّ الأدنى. أما مسافة المئتي متر الفاصلة بين القصور الفارهة وبين أشباح الأبنية فتجد نصفها الأول عامراً بالحدائق والطرق السالكة والمنظمة والنظيفة، في حين تجد ما تبقى من المسافة لجهة أشباح الأبنية غارقة بالقذارات، إضافة إلى الفوضى المدجَّجة بالاضطراب.
إن ذلك الذي رسمنا بعض مفارقاته القبيحة في مدن عربية، لم يأت من العدم، وإنما أسَّست له نظم عربية أمنية تفتقد الرغبة والمال والحافز الذاتي لمواجهته عبر استراتيجيات علمية تعبّد الطريق أمام تقدم بلدانها بمختلِف الاعتبارات. وسوف نلاحظ الحال نفسه في بلدان عربية أخرى تعتاش فيها مظاهر الحداثة الخارجية مع جذور متينة من التخلف، على نحو يُنتج صِيغاً من المفارقات الثقافية والأخلاقية والاعتقادية...إلخ. إن سادة الاستبداد العربي، الذين سقط فريق منهم، مارسوا دوراً زائفاً في عملية التقدم والإصلاح العربي، وما نعيشه الآن تعبير عن ذلك.
التعليقات