عدنان سليم أبو هليل

البعض يبالغون في التعويل على ذهاب الفلسطينيين إلى الأمم المتحدة في الحادي والعشرين من سبتمبر الجاري للحصول على الاعتراف بدولتهم.. وآخرون يزهدون في ذلك ويعتبرونه قفزة في الهواء لا يحمل أي قيمة عملية أو جدية.. بعض آخر يرفضون الفكرة من أساسها إما لأنهم يعتقدون أن الأمر من أصله مؤامرة على حق العودة ومحاولة للالتفاف على الرأي العام بترويج عناوين مختلفة في فترة تشهد ركودا دبلوماسيا في وقت تمتلئ فيه الساحة العربية والإقليمية بالتغيرات والثورات أو لأنهم يتشككون في السيد عباس ابتداء ولا يحسنون الظن في خياراته وهذا ndash; في نظري - أقرب إلى الشخصنة وفكرة المؤامرة منه للموضوعية والواقعية.. لكن فريقا آخر يرون الذهاب للأمم المتحدة خطوة ضرورية وإن تمت بشكل صحيح فستكون رافعة للعمل السياسي الفلسطيني ببعد إستراتيجي دون المخاطرة في شيء..
وأقول: سواء أحسنا الظن أو أسأناه في دوافع وفي جدية هذه الخطوة ؛ فلا يجوز أن يغيب عنا أنها تأتي كبديل عن المفاوضات وعن عملية التسوية الفاشلة التي تعطلت منذ ثماني عشرة سنة في المرحلة الأولى الانتقالية منها ولا ينبغي أن يغيب عنا أن فيها تغييرا للمرجعية التي ظلت حصرية في أمريكا والرباعية التي لم تكن ولا يوما واحدا نزيهة تجاه القضية لا سياسيا ولا أخلاقيا..
ذلك ينبغي أن يسترعي انتباه معارضي هذه الخطوة ليتنبهوا إلى التحول الإستراتيجي الذي جاءت ثمرة له وإلى إمكانات الاستثمار فيها لتحول آخر.. وإذا نظرنا لإمكانات السيد عباس وحدود وطبيعة الخيارات وهوامش المناورة التي يعمل في إطارها يمكن القطع بأن هذه الخطوة هي أفضل ما سيكون قام به أو يمكنه أن يقوم به حتى الآن.. وليس في هذا تهويل ولا هو من منطلق الإعجاب بالسلطة الفلسطينية وسلوكياتها السياسية أو الوطنية الآن ولا قبل الآن..
جدير مراعاة أن إقامة الدولة على حدود الـ67 وتحصيل الاعتراف الدولي بها لا يقع في منطقة الخلاف بين الفلسطينيين أو العرب - مفاوضهم أو مناورهم أو مقاومهم ndash; وليس هو سبب المعارضة لعباس أو للسلطة.. وعليه فلا ينبغي اصطناع اختلاف عليه ولا تضييع وقت في التزهيد فيه والتثبيط عنه.. وماذا يضير أي فلسطيني أن تنتقل عملية التسوية إلى الأمم المتحدة وأن تحدد معالم الحل النهائي وأن يصير الاستيطان مجرما بالقانون ومرفوضا من المرجعية الأممية؟
المشكلة الحقيقية أراها في موضع آخر هو الذي يجب التنبه إليه وصرف الاهتمام له ؛ أراها في احتمال أن يتراجع السيد عباس عن المضي في هذه الخطوة وليس ذلك مستبعدا فقد حدث مثله مرات سابقة وثمة إشارات في خطابات المسؤولين الفلسطينيين تؤشر عليه، والتخوف أيضا أن يقبل السيد عباس بانتقاص الاعتراف بالدولة الفلسطينية أو بتقييده بشروط تفرغ محتواه القانوني والشرعي ضمن اتفاق ثنائي أو ثلاثي مع الأوروبيين أو غيرهم.. وقد نشرت صحيفة quot;هآرتسquot; الصهيونية صباح يوم الاثنين الماضي تقريرا تضمن quot; صفقة أوروبية قدمت للفلسطينيين تدور حول عضوية غير كاملة لدولة فلسطين في الأمم المتحدة، واعتبار التصويت غير ملزم للدول، وأن تدمج السلطة الفلسطينية في نص القرار (والسلطة ndash; كما هو معلوم - ليست أكثر من هيئة ورئيسها ليس أكثر من رئيس هيئة - تشيرمن وليس برزدنت - أي أنها ستصير جزءا لا يتجزأ من قرار الاعتراف وحدا ساقفا لطموحات الاستقلال) الصفقة طرحت أيضا: تجديد المفاوضات مع إسرائيل (دون أن تتعرض لضرورة معالجة أسباب تعطلها) وأن يدمج نص القرار المقدم للأمم المتحدة بين خطاب أوباما في مايو الماضي وقرار وزراء الخارجية الأوروبيين في العام 2009 (أي الاعتراف بيهودية دولة العدو).. وبمرور سريع على نقاط هذه الصفقات سنجد أن كل بند فيها قد صيغ بخبث وبطريقة إما تحتوي على قنبلة موقوتة لتفجيره عند اللزوم أو تتضمن تنازلا عن ثابت من الثوابت قد ينسف قيمة الاعتراف من أصله أو تسعى لهدف صهيوني بارز..
هذه كلها تخوفات فيما قبل الذهاب للأمم المتحدة الذي صار قاب قوسين أو أدنى وهي التي ينبغي الالتفات لها والاهتمام بها.. وثمة تخوفات أخرى مما سيكون بعد ذهاب السيد عباس إلى الأمم المتحدة.. فقد يظن أنه أتى بما لم يخترعه الأوائل ويعجبه النصر الذي لن يكون إلا شكليا ما لم يفعله دوليا وإقليميا ووطنيا وما لم يستثمره قانونيا وسياسيا وإعلاميا، وما لم يقف به على أبواب الشرعية الدولية مع كل تصعيد صهيوني أو تنكر أمريكي.. التخوف أيضا أن يقع في وجدان السيد عباس ومن حوله الخوف من ردة فعل العدو وأن يسقط في مستنقع الدفاع عن النفس والشعور بالذنب فيتورط في سياسة سحب الذرائع ويظن أن عليه امتصاص نقمة العدو بقبول إطلاق المفاوضات وفق الظروف والاشتراطات التي يحددها نتنياهو ويزيد من مساحة التعاون الأمني.. فتزيد شقة الخلاف الداخلي الفلسطيني..
السؤال المنطقي هنا: كيف يمكن تجاوز هذه المخاوف؟ وما المطلوب تحديدا تجاهها منذ الآن وقبل أن تقع الفأس في الرأس ndash; كما يقولون -؟ وأقول: بجمع أهم التحليلات والاقتراحات في هذا الصدد يمكن الخلوص إلى أربعة اقتراحات مهمة هي ؛1- أن تكون صيغة المشروع الذي سيقدم لهيئة الأمم المتحدة واضحة أولا، ومتفقا عليها فلسطينيا ثانيا، وأن تتضمن الثوابت الفلسطينية ثالثا (وبالأخص قرارات الشرعية الدولية التي تؤكد حق العودة وحق تقرير المصير والقدس وإلغاء ونزع الاستيطان وتجريم ما يقوم به الاحتلال وحرية الأسرى والمختطفين وحق المقاومة بكل أشكالها) الحكمة المبتغاة هنا هي الاستفادة من الدعم الدولي والحشد الإعلامي لقرار الاعتراف في تثبيت الحقوق التي ظل العدو ينكرها ويبني قراراته وسياساته على أساس رفضها.. من الضروري هنا أن نتذكر أن من سيرفض القرار سيرفضه سواء اشتمل على هذه الثوابت أو خلا منها ومن سيقبله فسيقبله على نفس الميزان.. فليستفد الفلسطينيون من هذه الفرصة التي قد تتسنى لهم اليوم دون أي وقت آخر.. 2- أن تعمل القيادة الرسمية الفلسطينية على تحقيق أكبر مساحة ممكنة من التوافق الوطني بل الإجماع الوطني ndash; إن أمكن ndash; الإجماع على الخطوة ذاتها، وعلى الصيغة التي ستقدم بها، وعلى كيفية التصرف حيالها ثم بعدها مع احتمالي النجاح والفشل.. ومثل هذا التوافق هو الضمانة التي ستحمي من تخوفات كثيرة يحذر منها كثيرون ومما ستترتب على نجاح المسعى أو على فشله. 3- أن يكون الذي سيتقدم بهذه الخطوة للأمم المتحدة هو منظمة التحرير وليس السلطة باعتبار أن المنظمة هي الممثل الرسمي.. ذلك سيضمن أن لا تقع البلبلة في المرجعية الفلسطينية وأن لا يهمش أو يلغى دور فلسطينيي الشتات.. 4- ينبغي على السيد عباس ومن يتهيأون معه لهذه الخطوة أن يكونوا قد وضعوا تصورا شاملا وإستراتيجية متكاملة لها ولما يتوقع أن يكون بعدها حتى ينطلقوا في استثمارها فورا وحتى لا يتحول الأداء الرديء عقبها لجزء عرفي من ذاتها وحدودا قصوى لكيفية التعاطي معها فيصبح بالتالي استثمارها بشكل صحيح وجاد أمرا صعبا بل مستحيلا..
آخر القول: على الفلسطينيين أن لا ينخدعوا بأية أوهام جديدة يسوقها دينيس روس الأمريكي، ولا بأية وعود تقدمها مسؤولة العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي كاثرين آشتون مهما بدت جدية، ولا بأية عروض وإغراءات مغلفة يقدمها آخر لحظة نتنياهو لصرفهم عن الذهاب للأمم المتحدة، وعلى معارضي الذهاب للأمم المتحدة أن يبتعدوا عن شخصنة الرفض وأن يعولوا على مستقبل التغييرات الجارية في المنطقة ودعم الموقف القانوني والإعلامي والدبلوماسي للسلطة من هذا التحول بهدف إعطائه القيمة العملية والحقيقية.