عبدالله بن بجاد العتيبي


الزمن الأصولي في المنطقة العربية ينتشي بآمالٍ عراضٍ في ظل الاضطرابات الكبرى، وحين كتب كاتب هذه السطور عن quot;الزمن الأصوليquot; 9 مايو الماضي في هذه الصحيفة لم يكن بين يدي تصريح مباشر أعتمد عليه، ولكنّه التحليل ومحاولة تقديم مقاربة ورؤية للمستقبل، أمّا اليوم فقد جاء التصريح بالزمن الأصولي من واحد من أكبر رموز الإسلام السياسي هو الدكتور يوسف القرضاوي.

قال القرضاوي في لقائه مع شباب حزب الوسط: quot;لكل زمان دولة ورجال.. والليبراليون والعلمانيون أخذوا زمانهم وهذا هو زماننا وزمان الإسلاميينquot; كما جاء في الدستور بتاريخ 5/9/2011، إنّ القرضاوي يتحدث صراحة عن زمن أصولي قادم في مصر والمنطقة.

هذا التصريح مع إقراره بالزمن الأصولي القادم، إلا أنّه يطرح مغالطتين أساسيتين: الأولى، أنّ الزمن الماضي كان لليبراليين، والثانية، أن زمان الأصوليين قادم بما يوحي بالفكرة المعروفة، وهو أنّ الإسلاميين أو الأصوليين لم يكن لهم دولة في السابق إن أصالةً أو مشاركةً.

في المغالطة الأولى مفهوم أن بعض الأنظمة العربية قد تبنّت الخيار العلماني في دولة ما بعد الاستقلال، إنْ مدنياً كما في دولة تونس مع أبي رقيبة، وإنْ عسكريا كما في مصر الناصرية وكذلك في عراق قاسم وعارف وصولاً لصدّام وأيضاً في سوريا وصولاً لحافظ وحزب quot;البعثquot;، وغيرها من النماذج، ولكنّ غير المفهوم هو إشارته للحكم الليبرالي في المنطقة العربية، فلا أعرف نظاماً ليبرالياً عربياً ممتداً ليشكل زمناً -حسب تعبير القرضاوي- في كل العالم العربي، نعم، مرّت فترة قصيرة جداً في مصر الملكية ولكنّها بالكاد تذكر.

ربما كانت إحدى مزايا القرضاوي التي يعتدّ بها ويفخر بها محبّوه هي أنّه خطيب مصقع، ولكنّ إدمان اللغة الخطابية يوقع صاحبه في لزوجة عند الحديث عن المفاهيم، واختلاطٍ عند الحديث عن التيارات الفكرية أو الأنظمة السياسية، وإلا لما أطلق هذه المغالطة تجاه زمنٍ ليبرالي عربيٍ لا وجود له.

غير أنّ الخطابية وحدها لاتمنحنا القدرة على فهم هذه المغالطة بل يجب أن نستحضر إلى جانبها ممارسة أخرى أكثر وعياً في خطاب جماعات الإسلام السياسي، وهي تعمّد تعويم المفاهيم وخلطها، إمّا لتجنّب النقد أو لتوظيفها في خدمة الجماعة، وهذا منهج قديم لدى الإخوان بدأه حسن البنّا، ويمكن مراجعة ما كتبه حول مفاهيم مثل quot;الوطنيةquot; أو quot;الدولةquot; أو quot;الأحزاب السياسيةquot;، وتصريح القرضاوي هذا وأمثاله يؤكد أنّهم لم يزالوا على الدرب سائرين، بنفس المنهج وذات الطريقة، وإن اختلفت بعض الأشكال، وتغيرت بعض المعطيات.

لمزيد من الإيضاح، فإن القرضاوي سبق له أن صّرح قبل أشهرٍ بالقول quot;نعم إني تبنيت مفهوم الدولة الإسلامية الصحيحة، وهي أنها دولة مدنية، ذات مرجعية إسلاميةquot;، وأضاف:quot;الدولة المدنية هي التي تراعي سنن الله في الكون والمجتمعات. هي دولة مدنية شورية، أو ديمقراطية تعددية. وهي في مجال العقائد، تقوم على المحافظة على الإيمان، ومحاربة الشك والتشكيك في الدين، ناهيك بالإلحاد والجمودquot; .

إنّ القرضاوي هنا يستخدم المفاهيم الحديثة مثل quot;الدولة المدنيةquot; و quot;الديموقراطيةquot; ثمّ يقدّم لها تفسيراً مغايراً لما هو معروفٌ ومتداولٌ لهذه المفاهيم والمصطلحات في علوم السياسة ونحوها، ولكنّه تفسيرٌ اخترعه ليتواءم مع طروحاته وطروحات الإسلام السياسي، وهو يعلم أن جمهوره لن يناقشه فيه، ولئن كان للدولة المدنية تفسيرات متنوعة بين طارحيها ومستخدميها من الفلاسفة والمفكرين غير أنّه بالتأكيد ليس منها المحافظة على الإيمان ولا محاربة الشك والتشكيك في الدين، لا لأنها تتبنّاه بل لأنّها تعتبره موضوعاً مغايراً لموضوع السياسة والدولة. وقل مثل هذا في الديموقراطية.

إنّ مما يدفع القرضاوي وغيره لمثل هذه التصريحات، هو أنّه يحسب ومعه جماعات وأفرادٌ من الإسلام السياسي بأن دولتهم قد دالت في العالم العربي، وكما استغل الخميني جماهير الشعب الإيراني وأحزابه العريقة وتياراته المتباينة التي جمعتها الثورة، ووحدهم جميعاً خلف هدف إسقاط الشاه ومن ثمّ انقلب عليهم وكان تعامله معهم بعد إحكام سيطرته بين الإعدامات والسجون والمهاجر، فإن الإسلام السياسي في شقه السُنيّ رموزاً وحركاتٍ يطمحون أن يفعلوا الشيء ذاته.

إنّ مثل هذه المغالطات وغيرها يتمّ تداولها على نطاقٍ واسعٍ في الصحافة الغربية أو العربية فيما يتعلّق بالإسلام السياسي منها ما يكذّبه التاريخ ومنها ما يكذّبه الواقع، ومنها ما يحتشد غباره ليملأ المستقبل غشاوة ويمنع الرؤية ويحجب الأفق.

وعلى سبيل المثال، فمن هذه المغالطات مغالطةٌ يطرحها عددٌ غير قليلٍ من المثقفين والكتّاب والباحثين من الأصوليين وغيرهم، تقول هذه المغالطة إن كل التيارات قدّ جرّبت بعد الاستقلال في العالم العربي ولكنّ الإسلام السياسي -وحده- لم يجرّب بعد -كما تقدّم- والصحيح أنّه نموذج قد جرّب على المديين الطويل والقصير وكانت النتيجة واحدةً هي الاستبداد والظلم وسوء الإدارة الذي يقع ضرره الأكبر على الشعوب.

على المدى الطويل لدينا النموذج السوداني الذي دمّر العملية السياسية في السودان ونشر الظلم على نطاقٍ واسعٍ وتصارعت قياداته على السلطة، وأخيراً أدّى لتقسيم البلاد وانفصال الجنوب. أما على المدى القصير، فلدينا نموذج غزّة التي بدأت بما انتهى إليه السودان فبدأت بالانفصال الفلسطيني ثم طبقت النموذج السوداني مع زيادةٍ هي الائتمار بأمر بعض التحالفات الإقليمية ذات الأجندة التي تخدم مصالح الآخرين لا مصلحة الشعب الفلسطيني، وبقي تعاملها مع الشعب يعتمد على الاستبداد والظلم والقمع باسم الحكومة حيناً وباسم الله أحياناً.

مغالطةٌ أخرى تتعلق بالإسلام السياسي في هذا السياق، يطرحها رموز الإسلام السياسي ويتبعهم بعض المتحمسين خاصةً بعد ما يجري الآن من اضطرابات في العالم العربي، هذه المغالطة تتلخص في أنّ ما يجري في الدول العربية سيكون مآله أقرب ما يكون إلى النموذج التركي، وينسون أنّ النموذج التركي مختلف تماماً في سياقه التاريخي والحضاري، وأن المدنية في تركيا يحميها الدستور ويرعاها الجيش، وأن المدنية -حتى بالمفهوم التركي- غير موجودةٍ في العالم العربي، ولا يحميها دستورٌ ولا يرعاها جيشٌ، بل على العكس فالنموذج المصري شهد انحياز الجيش للإسلام السياسي وشهد تعديلاتٍ دستورية شديدة الأهمية تناقض المدنية وتدفع باتجاه خدمة أهداف وطموحات الإسلام السياسي.

مفهوم الدولة المدنية مفهوم ولد في السياق الحضاري والسياسي الغربي، وحين يستخدمه الكثيرون فإنهم يشيرون لمعنى الفصل بين سياسة الدولة ومؤسساتها من جهةٍ وبين الأديان التي يتبعها أفرادها، ولهذا حين يطرح القرضاوي وquot;الإخوانquot; شعار quot;دولة مدنية ذات مرجعية إسلاميةquot;، فهم كمن يقول quot;دولة علمانية ذات مرجعية دينيةquot;، أي أنه شعار مخادع فيه تذويب للمعاني وتسييل للمصطلحات.

يملك الإسلام السياسي وخطابه قدرةً على تزوير المفاهيم الحديثة والبرّاقة لخدمة أهدافه ومصالحه، وتكون خطورته أكبر حين يسلب الدولة المدنية معناها، ويجعل الديموقراطية لاتعدو أن تكون نموذجه المغالط لها.