محمد ديبو


من يتابع ما يكتب عن الانتفاضة السورية، سيلحظ شيوع النظرة الأحادية التي ترى في الأمر بعداً واحداً، دون الغوص في تعقيدات الحالة السورية. بذلك، تصبح تلك الكتابات جزءاً من المشكلة التي تخفي الواقع، بدلاً من الإضاءة عليه.
في قراءة الانتفاضة السوريّة، سنرى استسهالاً وكلاماً إنشائياً يقرأ الظاهر من الأمور، ويعيد كتابته بأشكال متعددة، بعيداً عن البحث في أسئلة أكثر حدّة، من نوع: لماذا لم تحسم الأمور بعد؟ لماذا تتخوف الأقليات؟ أين البديل، وما تأثير غيابه على الانتفاضة؟ في الإجابة، سنجد أجوبة سطحية، تحيل كلّ سالب إلى الاستبداد بعد تقبيحه، وكل موجب إلى الانتفاضة بعد تأليهها، عبر معالجة مبسطة. يقرأ العقل الأحادي الحالة في سوريا، على أنّها صراع بين استبداد وشعب يبحث عن حريته، ومن المؤكد أنّ الشعوب منتصرة مهما تأخر الزمن. ذلك أمر صحيح، لكن ليس بالمطلق.
في ذلك معطى عام، لا يقرأ نوعية الاستبداد وشدّته وأدواته، ولا يقرأ ما فعله الاستبداد الوحشي بالشعب التائق إلى الحرية، من جهل وغرائز وتعطيل قوى حيّة بسبب الجهل بإدارتها، بما يعني ذلك من انعكاس على شكل الحراك. كذلك ولّد الاستبداد لدى الشعب قدرة عنيدة على الصمود والتحدّي والإصرار على نيل الحقوق، عبر مواجهة الدبابات بصدور عارية، لكن مع الضعف الواضح بكيفية استثمار تلك القوى وزجها في معركة واحدة.
نعم يتحرك الشعب بدافع الحرية، ولكن بأي وعي يقود الطريق إلى حريته؟ هل يفعل ذلك بفعل وعيه المدني الصرف، كما يقول أصحاب النظرة الأحادية؟ أم بفعل وعيه المركب طائفياً وطبقياً ومدنياً؟ وهنا يغدو الشعب عبر الوعي المركب والمشوّه في بعضه (غرسه الاستبداد) معيقاً لحريته، ما لم تتم معالجة تلك الأبعاد.
حين يقال لنا إنّ وعي الشعب السوري مدني بالكامل، في ذلك تأليه ليس في مكانه. تأليه سيبرّأ الاستبداد: إذ كيف خلق الاستبداد شعباً حراً وذا بعد مدني، أليس في ذلك تناقضاً؟
هنا يصبح الاعتراف، فعل شجاعة لمصلحة الانتفاضة، وليس مثلباً يؤخذ عليها، وخاصة حين يكون الاعتراف من موقع الساعي إلى تجاوز ما غرسه الاستبداد وإلى ترسيخه. الرؤية ذاتها تنطبق على النظر إلى الكتلة الصامتة من الأكثرية والأقليات التي لم تتحرك بعد. يختزل الأمر في تبرير عدم تحركها في استغلال النظام لها، وتخوّفها الواهم من التغيير. وهنا ثمة خطأ شائع في توحيد الأسباب الداعية إلى عدم تحرك تلك الكتلتين، دون رؤية التباينات بينهما، فالحالة أكثر تعقيداً، وثمة أبعاد طبقية وطائفية تتداخل مع عوامل أخرى، منها الصراع الريفي/ المديني.
ثمة تباينات واضحة، في الكتلة الصامتة من الأكثرية، وهناك فئة التجار والصناعيين، ومنهم من ارتبط بالنظام في وثاق أبدي، ومنهم من بقي بعيداً عنه. كما هنالك حلب ودمشق، اللتين يغلب عليهما تاريخياً الحذر والوجوم، لا الصمت، ويتعلق تحركهما بتطوّر الانتفاضة وتجذرها.
نعم يتحرك الشعب تحت شعار الحرية، تحركه في ذلك عوامل كثيرة، يمكن ترتيبها في ثلاثة أبعاد. الأول هو البعد الطبقي، إذ يتحرك الناس احتجاجاً على أوضاعهم المعيشية ضد من همشهم وسرق قوتهم، لمصلحة قوى مال احتكرت أرضهم وأرواحهم. ثانيها الشعور الواعي بثقل القبضة الأمنية التي أهانت شعور الناس وكراماتهم لعقود، فتولدت الرغبة بتحطيمها. وثمة بعد ثالث طائفي (لاواعٍ وخجول) تشكّل بسبب الجهل وممارسات السلطة، يتجلى في قطاع واسع يرى في السلطة ممثلاً لطائفة الأقلية على حساب طائفة الأكثرية. وفي ذاك الأخير يتجلى البعد السلبي للانتفاضة، مع وجود فرق تسعى إلى تأجيج الأمر تحت حجتين. تتجلى الأولى في القول إنّ أي سلاح يضعف الديكتاتورية ويحشد الناس ضدها هو مباح، غير مدرك أنّ ذلك يعني وقوف أقليات أخرى إلى جانب النظام، وفق ذاك المنطق، عدا عن خطورته على النسيج الاجتماعي مستقبلاً. وتتجلى الحجة الثانية بأنّ بعض تلك القوى إسلامية طائفية، تريد الاستثمار في ما بعد سقوط النظام، وتسعى الى تأجيج البعد الديني/ الطائفي لأنّه ضمانة لوجودها المستقبلي.
أما في ما يتعلق بالأقليات والكتلة الصامتة من الأكثرية، فيأتي في مرتبة أولى البعد الطبقي معززاً بعامل الخوف الوهمي (وهنا بعد سلبي ضد الانتفاضة). وفي مرتبة ثانية يأتي غياب البديل الوطني المطمئن لأهل المدن الكبرى التي ترتبط مصالحها بالاستقرار، ولأصحاب رأس المال وللأقليات، وفي ذلك بعد إيجابي لمصلحة الانتفاضة، لو استثمر جيداً يستميل تلك الكتل التي تمثّل مستقبلاً ضمانة لسوريا المدنية.
إذاً، ثمة حالة مركبة ومعقدة في سوريا، ونجاح الانتفاضة يتوقف على اندماج الإيجابيات من طرف الانتفاضة مع الإيجابيات من طرف الكتلة الصامتة. دون ذلك، قد تبقى الانتفاضة تراوح مكانها لوقت طويل، إلا إذا حسمت بفعل الخارج أو انهيار اقتصادي، وكلاهما له نتائج كارثية.