منصور معادل


كان إقدام البائع المتجول التونسي محمد البوعزيزي على التضحية بنفسه قبل عام سبباً في إشعال موجة من الاحتجاجات الشعبية التي امتدت إلى مختلف أنحاء العالم العربي، وأطاحت بالحكام الطغاة في مصر وليبيا واليمن، والآن يبدو أن حكم الرئيس السوري بشار الأسد أيضاً اقترب من نهايته. عُرِفَت هذه الحركات الرامية إلى التغيير باسم ldquo;الربيع العربيrdquo;، ولكن ما القيم التي تحرك هذه الحركات؟ وما نوع التغيير الذي يريده أنصارها؟ الواقع أن سلسلة من الدراسات الاستقصائية التي أجريت في العالم العربي في الصيف الماضي تسلط الضوء على بعض التحولات المهمة في الرأي العام.
في دراسات الاستطلاع، يعتبر 48 في المئة من المصريين و66 في المئة من اللبنانيين الديمقراطية والرخاء الاقتصادي هدفاً للربيع العربي، وفي كل من البلدين، يرى 9 في المئة فقط أن هذه الحركات تهدف إلى إقامة حكومة إسلامية. وبالنسبة إلى مصر والعراق والمملكة العربية السعودية، حيث تتوافر بيانات الاتجاه، عكس الربيع العربي تحولاً كبيراً في قيم الناس فيما يتصل بالهوية الوطنية، ففي عام 2001، عَرَّف 8 في المئة فقط من المصريين أنفسهم بوصفهم مصريين قبل كل شيء، في حين وصف 81 في المئة منهم أنفسهم بأنهم مسلمون، وفي عام 2007 كانت النتائج مماثلة تقريبا.
ولكن في أعقاب الربيع العربي، تغيرت هذه الأرقام إلى حد كبير: فقد ارتفعت نسبة هؤلاء الذين عَرّفوا أنفسهم بوصفهم مصريين إلى 50 في المئة، بزيادة قدرها 2 في المئة عن أولئك الذين عَرَّفوا أنفسهم بوصفهم مسلمين، وبين العراقيين، قفزت نسبة تعريف الهوية الوطنية من 23 في المئة من المستجيبين في عام 2004 إلى 57 في المئة في عام 2011. وبين السعوديين، قفزت النسبة من 17 في المئة في عام 2003 إلى 46 في المئة في عام 2011، في حين هبطت نسبة أولئك الذين زعموا لأنفسهم هوية إسلامية أولاً من 75 في المئة إلى 44 في المئة. وتشير الاستطلاعات أيضاً إلى تحول نحو السياسة العلمانية وتضاؤل الدعم لتطبيق الشريعة الإسلامية. فبين العراقيين ارتفعت نسبة هؤلاء الذين وافقوا على أن العراق سوف يكون في حال أفضل إذا تم الفصل بين الدين والسياسة من 50 في المئة في عام 2004 إلى نحو 70 في المئة في عام 2011. ولم تتوافر لدينا حتى الآن بيانات مماثلة بالنسبة إلى مصر والمملكة العربية السعودية، ولكن كلا البلدين أظهر انخفاضاً في نسبة تأييد الشريعة، ففي مصر انخفضت نسبة أولئك الذين يعتبرون تطبيق الحكومة للشريعة الإسلامية أمراً ldquo;بالغ الأهميةrdquo; من 48 في المئة في عام 2001 إلى 28 في المئة في عام 2011، وبالنسبة إلى السعوديين، هبط الرقم من 69 في المئة في عام 2003 إلى 31 في المئة في عام 2011.
وأخيرا، أظهر تحليل لعينة تمثيلية وطنية تتألف من 3500 من البالغين المصريين، الذين أعربوا عن اعتزازهم بالمشاركة في الحركة المناهضة لمبارك، أن المشاركين كانوا أكثر ميلاً إلى كونهم من الشباب الذكور غير المتزوجين، والمؤمنين بالقيم المعاصرة والإرادة الحرة، ولم يكن لديهم مانع من مجاورة أميركيين أو بريطانيين أو فرنسيين في مساكنهم، ولم تنبئ درجة التدين بالمشاركة من عدمها، في حين كان التعصب الديني مؤشراً لانخفاض المشاركة. الواقع أن هذه الأرقام تبدو متناقضة تماماً مع نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة في مصر، حيث حصد الإخوان المسلمون والأصوليون السلفيون معاً نحو 65 في المئة من الأصوات الشعبية. هناك حقيقة تظل ثابتة، وهي أن الدين يشكل عاملاً مهماً بالنسبة إلى الناخبين المصريين، حيث ldquo;وافق بشدةrdquo; أو ldquo;وافقrdquo; 66 في المئة ممن شملهم الاستطلاع على أنه من الأفضل أن يشغل المناصب العامة أشخاص يتمتعون بمعتقد ديني قوي؛ كما اعتبر 57 في المئة منهم تطبيق الحكومة للشريعة أمراً ldquo;بالغ الأهميةrdquo; أو ldquo;مهماrdquo;. ورغم ذلك فإن الهوية الوطنية تتفوق على الدين، حيث وافق 78 في المئة على بيان مفاده أنه من الأفضل أن يشغل المناصب العامة أشخاص يتسمون بالتزامهم القوي بالمصالح الوطنية وليس أولئك الذين يحملون وجهات نظر دينية متشددة.
كيف إذن نفسر هذا التناقض بين بيانات الدراسة ونتائج الانتخابات في مصر؟ أولا، استفاد الأصوليون من سنوات من التنظيم السياسي والنشاط الاجتماعي، وبالتالي كانوا أكثر قدرة على حشد المؤيدين، في حين افتقر الليبراليون، الذين قادوا الانتفاضة ضد النظام السابق، إلى التنظيم على الصعيد الوطني ولم يكن الوقت المتاح أمامهم لترجمة رأسمالهم السياسي الذي اكتسبوه حديثاً إلى أصوات انتخابية كافيا.
ثانيا، كانت أولويات الليبراليين في غير محلها، فبدلاً من دفع أجنداتهم إلى الأمام بين المصريين، ركزوا على العدو الخطأ، فأهدروا وقتاً ثميناً في تنظيم المسيرات والمظاهرات ضد الجيش.
وأخيرا، لم تكن نتائج الانتخابات سيئة كما يبدو، ذلك أن الليبرالية كانت هدفاً للهجوم المتواصل لعقود من الزمان من قِبَل المتطرفين الدينيين والمؤسسات الدينية، وكانت القواعد والقوانين القمعية سبباً في خنق المنظمات الليبرالية، ولو كان نظام حسني مبارك سقط تحت راية الإسلام السياسي، لكان الأصوليون المسلمون في موقف أفضل لفرض مطالبات أكثر إقصاءً على الثورة والبلاد.
ولكن الليبراليين هم الذين خلصوا مصر من الاستبداد، وهذا بدوره أضفى الشرعية على الليبرالية وعمل على توليد مشاعر قوية بالوعي الوطني بين المصريين، ونتيجة لهذا، انحدر تأييد الشريعة وارتفعت الهوية الوطنية إلى عنان السماء، وبقدر ما يركز الخطاب السياسي على إعادة بناء الوطن والحرية، فإن الأصوليين الإسلاميين في مصر وبلدان أخرى سوف يواجهون معركة شاقة عسيرة.
* أستاذ علم الاجتماع في جامعة ميتشغان الشرقية، وكان المحقق الرئيسي للعديد من دراسات مسح القيم عبر الوطنية التي أجريت في الشرق الأوسط أثناء الفترة 2001-2011.
laquo;بروجيكت سنديكيتraquo; بالاتفاق مع laquo;الجريدةrdquo;raquo;