عمار علي حسن

كثير من الأفكار التي خطتها أنامل بعض الكُتاب المصريين على الورق طوال خمسة أعوام عن الكلمة التي تنتصر على القنبلة، والدم الذي يهزم السيف والقادمين من الحارات الخلفية حين يرسمون لوحات المجد في الميادين الفسيحة، رأيتها متجسدة أمامي في مصر يوم 25 يناير 2011، بل إن ما وقع وما جرى تعدى بكثير ما تم خطه وتحديده وتعيينه، لأن ملايين المبدعين هجموا فجأة على غرفة التاريخ التي أوصدها نظام شائخ متداعٍ فغمرها نور ساطع اختزنته الذاكرة المصرية عبر آلاف السنين ودفعته دفقة واحدة في وجه العمى والظلام والزيف والادعاء.

وقد تركت الثورة المصرية التي تحل الذكرى الأولى لقيامها في أيامنا هذه وراءها ثلاثة مظاهر لا تحظى باهتمام كثيرين أولها هو فشل كل النبوءات العلمية على رغم أنها حاولت تحري الدقة بقدر الإمكان. فجميعها كان يتوقع أن تندلع ثورة، لكنها اعتقدت أنها ستنطلق من عزب الصفيح التي تهزها الريح وتفوح منها روائح القهر والفقر والمرض، حيث تخرج ملايين الأفواه الجائعة لتبتلع كل شيء وكل أحد، ولا صاد ولا راد لها إلا عفو الله ورحمته بعباده. وقد كتبت مقالاً في صحيفة quot;الأهرامquot; عام 2008 كان عنوانه quot;ثورات مصر عبر العصورquot; ثم مقالاً آخر بعنوان quot;أقدم ثورة في التاريخquot; بدأت في الأول بالثورة التي وقعت في مصر أيام الملك بيبي الثاني وكانت quot;ثورة جياعquot; وشرحتها في الثاني بإسهاب، مع إسقاط لا تخطئه عين بصيرة ولا عقل فهيم. ولكن الثورة قام بها شباب ينتمون إلى الطبقة الوسطى بمختلف شرائحها، وهذا أفضل بكثير من quot;ثورة جياعquot; لا تبقي ولا تذر.

والمظهر الثاني هو تحليل ما فعلته وسائل الاتصال الحديثة من دور في خروج الناس محتجين. لقد كانت كلمة السر في هذه الثورة quot;الفيسبوكquot; لأنه فعل بالمصريين أمرين إيجابيين في وقت واحد، الأول تكوين شبكة اجتماعية مفترضة بسرعة قصوى، والثاني هو مراكمة الرؤى والأفكار حول الهدف المقصود. وهذه الشبكة عوضت مرحليّاً تلك التي عجزنا عن إنشائها في الواقع المعيش نتيجة اليد الأمنية الباطشة التي فككت أي روابط وارتباطات وتجمعات وعمدت إلى أن نحيا فرادى، لا يرى أحدنا الآخر، وينغمس كل منا في غبنه وعوزه وذله الذاتي المصنوع في أغلبه من قصور ذات اليد، وتوهم أن الجبن هو أقصر الطرق إلى السلامة.

أما التداول على quot;الفيسبوكquot; فجعلنا نتجنب عيباً شديداً يصم مناقشاتنا، وهو quot;التفكير الدائريquot;، حيث ننتهي من حيث نبدأ ونقع في شراك البلاغة والخطابة واستعراض مهارات التحليل، دون أن نتقدم مباشرة صوب الهدف المنشود. وفقدنا بالتالي quot;التفكير المستقيمquot; الذي يدفعنا إلى الأمام، والذي عرفناه في لحظات استثنائية من تاريخنا، مثل أيام حرب أكتوبر 1973، أو أثناء المناقشات الحامية داخل التنظيمات السرية في الأوقات العصيبة. وجاءت هذه الشبكة الإلكترونية لتمكن مئات الآلاف من أن يراكموا المعلومة على مثيلتها، والفكرة على نظيرتها.

فها هو أحدهم يقترح أن يتم الاعتراض على أسلوب وزارة الداخلية بعد مقتل خالد سعيد وسيد بلال، علاوة على حالات التعذيب والقسر والقهر والإذلال التي تطال المصريين من سوء معاملة أغلب ضباط الشرطة، فيحدد الثاني يوم عيد الشرطة موعداً للاحتجاج. ثم حدث تداول حول المكان والأسلوب والشعارات والهتافات وطريقة التعامل مع أجهزة الأمن. كان كل واحد يكتب رأيه، فيأتي الآخر ويضيف إليه أوينقحه أو يدحضه ويضع أفضل منه، وكل هذا يتم من خلف أجهزة الحاسوب التي يعرف بعضها بعضاً جيداً، بينما يجهل مستخدموها مع من يتناقشون ويتداولون ويتبادلون الرأي والمشورة أو المكيدة.

وهكذا الحرف على الحرف حتى ارتفع الأمر من مجرد quot;مظاهرةquot; إلى quot;ثورةquot; لاسيما بعد هروب الرئيس التونسي بن علي. وجاءت الضربة للنظام من حيث لا يحتسب. أبناء الطبقة الوسطى بشرائحها الثلاث مسلحون بوسائط الاتصال الحديثة التي تخترق كل الحدود والسدود والقيود، تمكنوا بأسرع، ما يتصور أحد أن يجمعوا الناس من الشوارع الخلفية المنسية، ويدفعوهم إلى مركز الحدث، قلب العاصمة مترامية الأطراف والتاريخ والمعاني quot;ميدان التحريرquot;.

والمظهر الثالث هو ما فعله ميدان التحرير في الحياة السياسية المصرية المعاصرة. وهي ظاهرة جديدة بكل المقاييس في العالم بأسره. لقد أحيا الميدان السياسة التي أماتها نظام الرئيس المخلوع، وعوَّض تخاذل أحزاب المعارضة عن أداء دورها في تعليم الناس فن ممارسة السياسة، وتعبئتهم حول القضايا العامة، وجذبهم نحو المشاركة السياسية الفعالة والإيجابية. فحلقات النقاش التي يشهدها الميدان ليل نهار تتحول إلى مدارس لمحو الأمية السياسية، وهنا تتلاقى وتتلاقح الخبرات والتجارب، وتنتقل من جيل إلى آخر. ولعل هذا الميدان يلهم العلوم السياسية، لاسيما الاجتماع السياسي، رؤى نظرية مبصرة حول قيادة الجماهير، ونشر الثقافة السياسية، وأساليب الاحتجاج ومضمونه، ووسائل المقاومة السلمية ومساراتها... الخ.

أما المظهر الرابع فيرتبط بالعلاقة التبادلية بين التفكير والتنفيذ في هذه الثورة. وفي الحقيقة فقد كان الفعل يسبق القول، والواقع يسبق الخيال. هكذا أدركت ذات يوم حين كنت أقول في إحدى وسائل الإعلام: quot;الثورة ستطور أفقيّاً ورأسيّاً. حيث ستصل إلى أماكن جديدة لم تشهد احتجاجات طوال الأيام الفائتة، وتصعد من الشارع إلى المؤسسات النقابية والهيئات البيروقراطيةquot;، فلم أكد أنتهي مما أقول حتى أسقط المصريون حرف quot;السينquot; الدال على ما سيأتي، وجعل الواقع المستقبل مضارعاً تاماً. فها هي الأخبار تتوالى عن خروج أهل الوادي الجديد، وها هي نقابات واتحادات وروابط مهنية تعلن الإضراب. وتكرر الأمر، فبعد دقائق من تحليل قدمته لقناة quot;الجزيرةquot; قلت فيه: quot;إن لم يتنحَّ مبارك سيزحف المتظاهرون ويحاصرون مقار المحافظات، ثم يطردون المحافظين باعتبارهم أعلى رموز للحكم أمامهمquot; سمعت سيدة في بورسعيد تقول لإحدى الفضائيات: quot;سنحاصر المحافظة ونطرد المحافظquot;. ولا أعتقد أن هذه السيدة قد سمعتني، لكنها القريحة الشعبية المصرية العملاقة التي بنيت على مهل عبر آلاف السنين، وكانت تسبق دوماً في التدبير كل ما يطرحه أرباب القلم والكلمة في التفكير.

إن ما جرى خلال الثورة المصرية التي لا تزال تواصل موجاتها، ولن تنفك حتى تحقق كل أهدافها، يحتاج إلى دراسة متأنية من الباحثين والخبراء في علمي السياسة والاجتماع، وأنا واثق أنهم سيخرجون بنتائج باهرة. أليست النظريات العظيمة تخرج من رحم التجارب الميدانية؟