ياسر عبد العزيز

إذا قرأت صحف القاهرة، أو جلست على أحد مقاهيها، أو تحدثت مع أي من سائقي التاكسي، في هذه الأيام، فإنك تسمع كلاماً واضحاً عن معارضة قوية للقرارات التي أصدرها الرئيس مرسي نهاية الأسبوع الماضي، باعتبارها محاولة لـquot;إعادة إنتاج فرعون جديد في مصر، بعد ثورة 25 ينايرquot;.


ومع ذلك، فقد أمكن أن ترى عشرات آلاف المحتشدين أمام قصر الاتحادية الجمهوري، بمنطقة مصر الجديدة، من أتباع quot;الإخوان المسلمينquot; وعدد من تيارات الإسلام السياسي، الذين حضروا من المحافظات البعيدة، في quot;باصاتquot; أُعدت خصيصاً لذلك، لتأييد الرئيس في قراراته، والهتاف بالصوت العالي: quot;الشعب يريد تطبيق شرع اللهquot;.


كانت القوى السياسية المدنية ممثلة في البرادعي، وعمرو موسى، وحمدين صباحي، والقيادي الناصري سامح عاشور، ورئيس حزب الوفد الليبرالي السيد البدوي، وآخرين عديدين تتجمع في ساحات مختلفة، ثم تقود مسيرات للوصول إلى ميدان التحرير في قلب العاصمة، للإعلان عن معارضة قرارات الرئيس، في وقت كانت quot;الباصاتquot; فيه تحشد مناصري التيار الإسلامي أمام قصر الرئاسة.
عندما أوشكت شمس يوم أول أمس الجمعة على الغروب، كان الشارع السياسي المصري منقسماً انقساماً واضحاً من دون أي شك؛ فالقوى الوطنية المدنية بكل أطيافها تتجه إلى ميدان التحرير، وبقية quot;ميادين الثورةquot; في أعماق البلاد، للتعبير بوضوح عن رفضها قرارات مرسي، وحلفاء ذلك الأخير من التيارات الدينية وأنصار جماعته يُحشدون بـquot;الباصاتquot; أمام قصر الرئاسة.
لقد قسمت قرارات مرسي الأخيرة الشعب المصري مرة أخرى، وعززت حال الاستقطاب، وخلقت أجواء من عدم الاستقرار، وأعادت البلاد خطوات إلى الوراء.
كان الرئيس وجماعته منتشين بالطبع بعدما انتهت الهجمات على غزة بسرعة، وتم إعلان توصل الأطراف إلى quot;هدنةquot; برعاية مصرية، وهنأت الولايات المتحدة مرسي على جهوده وشكرته، واحتفل quot;الحمساويونquot; بـquot;النصرquot; في غزة، مؤكدين أن quot;مصر قد تغيرتquot;، ومعبرين عن الامتنان والشكر للرئيس مرسي.
لا شك أن مرسي كان يجلس منتشياً في قصر الاتحادية نهاية الأسبوع الماضي، بعدما quot;نجحquot; في إيقاف quot;العدوانquot; على غزة، وquot;الانتصارquot; لـquot;المقاومةquot;، وquot;سحب السفير المصري من إسرائيلquot;، والوصول إلى quot;هدنةquot; بين الجانبين، وحصد quot;الشكر والامتنانquot; من كل الأطراف، وإعادة الاعتبار لدور مصر الإقليمي، وتكريس نفسه كـquot;عراب للحلquot;، وزعيم إقليمي.
يرى بعض المحللين أن ما فعله مرسي قد يمثل تحولاً استراتيجياً سلبياً، تلتزم فيه مصر بـquot;منع إطلاق صواريخ (حماس) باتجاه إسرائيلquot;، وتحقق حلم رابين في إلقاء تبعات غزة بعيداً عن كاهل الدولة العبرية. ويعتبر محللون آخرون أن السياسة التي انتهجها مرسي حيال تلك الأزمة لم تكن سوى تكريس لاستراتيجية الولايات المتحدة، بشكل يجعل الحكم quot;الإخوانيquot; في مصر بمنزلة quot;متعهد لجم (حماس)quot;، في مقابل تسهيلات أخرى؛ مثل قرض صندوق النقد الدولي، أو دفع عجلة الاستثمار، أو غض الطرف عن انتهاكات داخلية في عملية وضع الدستور أو صيانة حقوق الإنسان الفرد.
لكن تلك التحليلات لم تجد طريقها إلى المجال العام المصري بوضوح؛ إذ كان دخان التعبير عن quot;الانتصارquot; يحجبها، كما كان لعبارات الشكر والثناء التي انهالت على الدور المصري في الأزمة مفعول السحر، خصوصاً أن المصريين كانوا متعطشين للشعور بالفخر جراء أحد الأدوار الإقليمية، فضلاً عن شعورهم الضمني بالذنب تجاه غزة تحديداً، التي كثيراً ما أسهم في حصارها نظام مبارك، أو غض الطرف عن قصفها، أو شارك في إذلالها، من دون أن ينتصروا لها.

على أية حال، فقد تجمعت العوامل التي مكنت مرسي وجماعته من الشعور بالانتشاء والفخر، وعلى الأرجح، فإن مستشاري الرئيس وأقطاب جماعة quot;الإخوان المسلمينquot; رأوا أن الوقت مناسب للقيام بما أسماه أحدهم quot;ثورة تصحيحquot; على الطريقة الساداتية، أو quot;تصفية لمراكز معاندة الثورةquot;، عقب إطلاق يد الرئيس لـquot;فترة محدودةquot;، لإنجاز تقدم على طريق بناء المؤسسات الدستورية، تهيئة للانطلاق للعمل.
ويبدو أن صانعي القرار كانوا منتشين بدرجة أنستهم قياس أثر تلك القرارات، أو تحليل بيئة اتخاذها، أو توقع ردود فعل القوى السياسية والجمهور عليها، أو حتى توقع رد الفعل الدولي بصددها.
واستناداً إلى ذلك، فقد خرج المتحدث باسم الرئاسة المصرية يوم الخميس الماضي، ليعلن للعالم أن الرئيس مرسي أصدر إعلاناً دستورياً من بين بنوده ألا يكون هناك أي حق لأي مؤسسة أو فرد مراجعته بأي طريقة من الطرق في أي قرار يصدره أو سلوك يمارسه، منذ تولى السلطة حتى صدور الدستور الجديد وإنفاذه وانتخاب برلمان جديد.
ومن بين بنود هذا الإعلان quot;المهزلةquot; أيضاً أن الرئيس يحصن quot;الجمعية التأسيسيةquot; المنوط بها إعداد الدستور، والمثيرة للجدل، والتي تشهد انسحابات شبه يومية لأعضائها من التيارات غير ذات الإسناد الديني، كما يحصن quot;مجلس الشورىquot; الذي ينتظر حكماً مفهوماً ومتوقعاً بحله، ويبقي المؤسستين بمعزل عن أحكام القضاء. وإضافة إلى ذلك، فقد عزل مرسي النائب العام بمقتضى هذا الإعلان، وعيّن نائباً عاماً جديداً، في افتئات واضح على السلطة القضاية وانتهاك مريع لاستقلاليتها المفترضة.
لقد ضمّن مرسي الإعلان بعض المواد التي يطالب بها الثوار والقوى السياسية مجتمعة، خصوصاً في ما يختص بحقوق quot;شهداء الثورةquot;، لكن ذلك لم يقلل أبداً من وقع الفواجع التي تضمنها الإعلان بحق السلطة القضائية.
يعد الإعلان الدستوري الذي أصدره مرسي الخميس الماضي إعلاناً استبدادياً بامتياز، يريد من خلاله ممثل جماعة quot;الإخوان المسلمينquot; في قصر الرئاسة تحويل مصر إلى إحدى quot;جمهوريات الموزquot;، عبر انتهاك سلطة القضاء وعدم الاعتداد بها، في الوقت الذي يجمع فيه بين سلطتي التنفيذ والتشريع، ليصبح quot;فرعوناًquot; ليس له نظير في العصر الحديث، وليحصل على سلطات لم يحلم سلفه مبارك بمثلها يوماً.
وإضافة إلى رد الفعل الشعبي الغاضب والصارم، وتوحد القوى السياسية المصرية المدنية ضد هذا الإعلان، والانتقاد الواضح له من جانب الولايات المتحدة، وفرنسا، والاتحاد الأوروبي، وبعض هيئات الأمم المتحدة، فإن هذا الإعلان quot;الهزليquot; قسّم مصر إلى قسمين واضحين كبيرين؛ أحدهما يمثل قوى الإسلام السياسي التي تريد quot;تطبيق شرع اللهquot;، وتُحشد بـquot;الباصاتquot; إلى حيث يُقال لها، وثانيهما يمثل مجمل القوى السياسية الوطنية المدنية.
يريد مرسي، وجماعته، إعادة إنتاج الفرعونية السياسية في مصر، استناداً إلى quot;انتصارquot; ملتبس تحقق في غزة، واتكاء على هتافات البسطاء بأن quot;الشعب يريد تطبيق شرع اللهquot;، والواقع أن هذا الأمر سيكون صعباً وغير قابل للتحقق، فضلاً عن أنه سيعرض البلد لمخاطر جسام، وينذر بتحول quot;ربيع مصرquot; إلى مجرد شتاء من الاستبداد والطغيان والفوضى.