زياد الدريس


رغم أني أتحاشى استخدام تعبير: (الغائب / الحاضر) لكثرة ما استُخدم حتى استُهلك، لكني فعلت حين فطنت أن هذا الوصف لا ينطبق على أحد مثلما ينطبق على الشيطان!

كانت مدينة فيينا، قبل البارحة، تحتضن في إحدى كبرى قاعاتها الأخاذة، الزعامات الدينية المسيّرة لمشاعر وشعائر سكان هذا الكون. تحت قبة واحدة، بل ربما على الطاولة نفسها، كان يجلس الشيخ الإسلامي والقس النصراني والحاخام اليهودي والزعيم الهندوسي والبوذي، يجلسون معاً لا للتقريب بين الأديان كما كان المفهوم الخاطئ في زمن مضى بل للتقريب بين أتباع الأديان فيما يخدم مصالحهم الإنسانية المشتركة ويخفف الاحتقان الذي يهدد أمنهم كل يوم.

قلت لزميلي على الطاولة: أرى أن المنظمين قد دعوا كل المعنيين عن الاحتقان الذي يلف العالم اليوم لكنهم نسوا أن يدعوا واحداً من أهم الأطراف المعنية في التشابك البغيض بين بني البشر .. لقد نسوا أن يدعوا الشيطان!!

كانت هذه ممازحة، في الحين الذي كنت أعلم أن الشيطان موجود أصلاً في حفلة التصالح تلك، حتى من غير دعوة، فالشيطان عادة لا ينتظر دعوة للحضور، خصوصاً في المناسبات الخيّرة كتلك!

كان افتتاح مركز الملك عبدالله العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات بفيينا حفلة خيرية نبيلة وحكيمة بكل المقاييس، ويتضاعف هذا النبل المكنوز فيها عندما نتأمل في توقيتها الحساس حيث تكاد تتحول فُرُش البشر اليوم إلى قنابل موقوتة من الغضب والانتقام المتبادل.

أعرف أن هناك من يقف ضد هذه المبادرة، من لدن كل المعسكرات الدينية المتوترة، منطلقين من أن العداء بين أتباع الأديان جزء أساسي من برنامج العمل التعبدي وأن العداء يجب أن يبقى كي يشعر الواحد منهم بتميزه. أُطمئن هؤلاء بأن العداء سيبقى، وأن الشيطان كان حاضراً في الحفلة كي يتابع تحقيق الهدف المشترك بينهم. لكن من المهم الإشارة إلى أن الأديان لم تأت لضمانة الغضب الدائم بين بني البشر، وكأن رسالة الدين الأساسية هي الحرب لا الحب. الغضب سيبقى والعداء سيستمر ولا أحد مهما كان مثالياً وناعماً يتخيل أن الكون سيكون يوماً خالياً من التوتر. سيكون هذا مخالفاً للناموس الكوني الرباني الذي أوجد الأرض وأوجد الفردوس وجعل بينهما فرقاً، لكن هذا لا ينفي بذل الجهد من أجل تخفيف الممكن من الاحتقان وتعزيز المشترك من المشاعر والمصالح. تلك هي رسالة الأنبياء عليهم السلام الذين كانوا يعرفون الله عز وجل حق المعرفة.

هذا المركز الحضاري، السعودي النمساوي الإسباني والعالمي، هو ليس لدمج الأديان بل لدمج المصالح .. وهو ليس لدمج أتباع الأديان بل لتعزيز التعايش بينهم. فشكراً للملكين الحكيمين الملك عبدالله بن عبدالعزيز والملك خوان كارلوس وللرئيس النمساوي على حملهم هذه الحمامة بيد واحدة ورعايتها حتى إطلاقها قبل البارحة في فضاء السلام المأمول، بعد أن بذل فيصل بن معمر وفريقه أياماً من العمل المتواصل من أجل تدوين هذه اللحظة التاريخية في دفتر الشرف الإنساني.

وسأستعيد هنا عبارة سبق أن كتبتها قبل سنين: laquo;الأديان .. عود ثقاب العالمraquo;، بها يمكن أن نشعل كومة القش في عقول البشر، وبها يمكن أن نستنير طريقنا المظلمة في دروب الحياة.