علي محمد فخرو

أطلقت مؤسسة الفكر العربي في مؤتمرها الفكري السنوي منذ أسبوعين مبادرة ثقافية بالغة الأهمية تحت مسمى ldquo;لننهض بلغتناrdquo; . وقد وثّقت مبرّرات تلك المبادرة في كتاب شامل احتوى على دراسات رصينة تبرز المشاكل والأخطار التي تواجهها لغتنا الأم القومية في شتى المجالات المجتمعية . وبالطبع فإن هذه المبادرة تأتي تكملة لجهود كثيرة سابقة قامت بها مؤسسات وأصوات فردية عدة، وذلك عبر العشرات من السنين .
جميع تلك الدراسات السابقة والحالية وجميع المؤتمرات العديدة التي انعقدت بيّنت بصورة قاطعة أخطار وصول اللغة العربية إلى مراحل الانكماش التدريجي، انتهاء بمرحلة التهميش والإقصاء والضمور . إذاً فالتشخيص الجاد الصحيح قد تم وأصوات الإنذار بإمكانية الكارثة قد ملأت فضاءات الوطن العربي، والحلول قدّمت في شكل توصيات لا عد لها ولا حصر . لكن الانتقال إلى مرحلة الفعل ظلّ متعثّراً وجزئياً ولا يتناسب مع حجم المشاكل التي تبيّنها الدراسات والمؤتمرات . غير أن الفعل يحتاج إلى أن يأخذ في الاعتبار الأولويات ومقدار سهولة أو صعوية الحلول وبالنسبة للغة العربية هناك أولوية تحتاج الأمة إلى التوجه نحوها في الحال .
في الثلاثين سنة الماضية هبت رياح العولمة بقوة . وكان أحد أبرز نتائج الثقافة التي تبنّتها ظاهرة العولمة تهميش دور الدولة في تقديم الخدمات الاجتماعية الضرورية للمواطنين، وعلى الأخص الفقراء والمهمشين منهم، والدفع بقوة من قبل مختلف المؤسسات الدولية نحو خصخصة تلك الخدمات، وكانت الضحية الأولى لهوس الخصخصة الخدمات التربوية .
لقد شجعت الدولة العربية قيام نظام تعليمي خاص منافس وموازٍ للتعليم العام . ولم تكترث الدولة إن كانت المدارس والجامعات الخاصة وطنية أم أجنبية، فأيديولوجيات الخصخصة كانت خاضعة لمنطق السوق الذي قدّم كحلّ سحري لكل جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية . كما قدّم التعليم الخاص كنظام أكثر كفاءة وجودة من نظام التعليم العام، واستعملت آلات الإعلان والدّعاية والإعلام لغرس ذلك الادّعاء في المجتمعات العربية .
كانت النتيجة أن توجهت عائلات الطبقتين الغنية والمتوسطة نحو التعليم الخاص، خصوصاً بعد أن تبين أن خريجي ذلك النظام أفضل مستوى في إتقان لغات العولمة الأجنبية، وعلى الأخص اللغة الإنجليزية، مقارنة بطلبة مدارس التعليم العام . لكن ذلك الإتقان الأفضل للغات الأجنبية تم على حساب اللغة العربية الأم . إن ذلك سيعني مستقبلاً وجود أعداد كبيرة من قادة وموجهي الأمة الفاعلين في مختلف الحقول ممّن لا يتقنون لغتهم الأم إتقاناً كافياً، الأمر الذي سيعكس نفسه على موضوعي الثقافة والهوية .
إن ضعفهم في اللغة العربية سيؤدي إلى ضعف شديد في ارتباطهم بمصادر ثقافة أمتهم، وعلى الأخص المكتوبة . وهذا بدوره سيؤدي إلى ضعف في ارتباطهم بهويتهم القومية، وبالتالي بانتمائهم الوجداني والحضاري لأمتهم . ويستطيع الإنسان تصور الكارثة التي ستحل بمجتمعات الوطن العربي من جراء هيمنة هكذا قادة على مسيرتها الحضارية .
إذاً ما الحل؟ الجواب عن هذا السؤال هو أحد مفاتيح الأولويات لمواجهة مشكلة ضعف اللغة العربية التي نريد أن ننهض بها .
في اعتقادي أنه لا يوجد حل عملي لهذه الظاهرة المتعاظمة آثارها والحاملة لأخطار كثيرة إلا من خلال تبنّي ضرورة وجود امتحانين في أساسيات اللغة العربية لجميع الطلبة العرب الذين يدرسون في المدارس الخاصة . إن ذلك القرار يحتاج إلى أن يؤخذ في المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة، وأن تلتزم بتنفيذه كل الحكومات العربية .
أما الامتحانان فتقوم بوضعهما والإشراف على نتائجهما وزارات التربية والتعليم . ويكون الامتحان الأول في نهاية المرحلة الإعدادية من أجل أن تعرف المدارس الخاصة ويعرف الطلبة وأولياء أمورهم مبكّراً مستوى طلبتهم وأبنائهم فيقومون بالجهود المطلوبة لتصحيح الوضع وذلك قبل الوصول للامتحان الثاني في نهاية المرحلة الثانوية .
امتحان نهاية المرحلة الإعدادية هو تشخيصي وتنبيهي، أما امتحان نهاية المرحلة الثانوية فيجب أن يقترن بقرار وطني صارم ينص على أن الدولة لن تعترف بشهادة طالب الثانوية من المدارس الخاصة إلا باجتيازه ذلك الامتحان . ونحن هنا لا نتكلم عن امتحان تعجيزي وإنما عن امتحان في أساسيات اللغة .
بهذه الطريقة تضع الدولة الكرة في ملعب المدارس الخاصة والطلبة وأولياء أمورهم، ليتأكدوا من أن مناهج ومواد وطرق تعليم اللغة العربية في المدارس الخاصة على مستوى من الكمية والجودة يؤهّل الطالب لاجتياز الامتحان الثاني بسهولة ويسر .
إن هذه الخطوة ستريح وزارات التربية والتعليم من ملاحقة المدارس الخاصة في تفاصيل كل صغيرة وكبيرة، الأمر الذي لا تستطيع الوزارات تحقيقه في جميع الأحوال، خصوصاً مع التوسع الهائل في أعداد المدارس الخاصة .
هل هذا طريق تعسفي؟ أبداً إنه أحد العلاجات الجذرية لمرض عربي خطير شخّص ونوقش كثيراً وآن أوان علاجه .