مأمون فندي

كلما حل أكتوبر أجدني معقود اللسان، لا أستطيع الحديث عن نصر أكتوبر بكامله، لأنني مثلك عزيزي القارئ سجين اللغة. نصر أكتوبر الأهم لم يكن في النصر العسكري، ولكنه كان في هزيمة عقيدة الأمن الإسرائيلية، التي أساسها خروج موسى وحماية مياه البحر الأحمر لبني إسرائيل. فكما نعرف جميعا عندما خرج موسى عليه السلام من مصر انشق البحر وابتلع جيش فرعون ونجا موسى وقومه على الناحية الأخرى، ومن هنا ترسخت في النفسية الإسرائيلية أن الماء يعصم الإسرائيليين من أي هجوم مصري، أمن مضمون بالمعجزات والقدرة الإلهية، أمن لا يتزعزع، الماء الفاصل بين مصر وإسرائيل هو الحاجز الإلهي الذي يؤمن إسرائيل من أعدائها على الناحية الأخرى، هذا هو حجر الزاوية النفسي في عقيدة الأمن عند الإسرائيليين منذ القدم. عقيدة لا تهتز ولا تزحزح أسطورة أمن سيطرت على الذهنية الإسرائيلية واليهودية لارتباطها بنجاة موسى وقومه من الفرعون وما تلاها من كتابة العهد والوصول إلى أرض الخلاص وأرض الميعاد، البحر هو أساس الأمان، وفي أكتوبر اقتحم المصريون البحر ولم ينشق ولم يغرق أحفاد الفرعون، ولم يكن الماء عاصما لخط بارليف من قوة الجيش المصري ومهارة جنوده. العبور المصري إلى الناحية الأخرى من البحر كان هو الهزيمة بالنسبة للإسرائيليين، ولم تكن الضربة الجوية؛ رغم أن هذا حديث فلسفي يجب ألا ينزلق إلى المماحكات السياسية. نصر أكتوبر لم يكن نصرا عسكريا للمصريين بقدر ما كان هزيمة لأسطورة الأمن الإسرائيلي، ولكننا - نحن المصريين - لا نستطيع أن نتحدث عن هذا الجانب من النصر لأننا سجناء اللغة وسط اشتباكنا مع الإسرائيليين في مساحة المقدس، نفترق عند الأرض وعند العرق، ولكننا نشتبك أو نلتقي عند نبي الله موسى.

تتعقد الأمور أكثر لو أردنا الحديث عن الثورة ونصر أكتوبر معا، وذلك لأن سجن اللغة يصبح مضاعفا، فلا نشتبك مع الرؤية الإسرائيلية في أن البحر يحمي من الخطر ولكننا أيضا نجد أنفسنا محاصرين بسؤال الخروج كعمل ثوري، فجزء كبير من دراسات التفوق التي كتبها المثقفون اليهود تدعي أن الخروج وليس البقاء هو العمل الثوري بامتياز، أي أن خروج موسي من مصر بوصفه عملا رافضا لطغيان الفرعون هو أصل العمل الثوري، خروج من أجل حياة أفضل مكانها أرض الميعاد أو القدس الجديد. وفعل التغيير هذا ليس فعلا عشوائيا بل محكوم بدستور واضح فيما يعرف بعقد سيناء أو الوصايا التي تلقاها نبي الله موسى في جبل الطور. وتلك رؤية مخالفة للخروج الإبراهيمي الذي كان خروجا مثاليا وقدريا، ليس خروجا إلى أرض الميعاد وإنما خروج إلى جنات عدن. خروج مثالي يمثل المرجعية الأولية للمدرسة المثالية في التغييرIdealist Thought ، مقابل خروج يمثل مرجعية لمدرسة الواقعية في خروج موسى عليه السلام المحكوم بعهد، الذي يرى أن هناك مكانا آخر في هذه الدنيا في أرض الميعاد وأرض اللبن والعسل أو المن والسلوى، وهو الحل لتفادي ظلم الفرعون وظلم أي طاغية. آيديولوجيا الخروج كأساس للعمل الثوري كانت المرجعية السردية التاريخية لجماعات مختلفة من التكفير والهجرة في حال شكري مصطفى في مصر، أو تجهيل المجتمع والخروج عليه في آيديولوجيا سيد قطب إلى آخر الجماعات المختلفة التي تبنت الخروج كعمل ثوري.

أما اليوم وبعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، فلا يرى في العمل الموسوي عملا ثوريا. إذ قررت ثورة يناير تبني التغيير في الداخل وإقصاء الفرعون عن منصبه وسجنه، ولم يكن هناك داع للخروج إذ إن التغيير من الداخل أمر ممكن رغم ما ينتابه الآن من صعاب. ولكن يبقى عقد سيناء الموسوي حجر عثرة، فيما نراه اليوم من طروحات الدستور بعد الثورة في مصر، فالدستور المطروح يريد أن يأخذ المصريين إلى أرض كنعان ليس بالخروج المكاني ولكن بخروج في الزمان، إذ تتبنى القوى التي دانت لها السيطرة آيديولوجيا laquo;طوباويةraquo; ترسم دستورا دنيويا ولكنها تريد أن تسبغ عليه سبغة اللوح الذي تلقاه موسى من ربه. المصريون قلقون لانحرافهم من خلال ثورتهم بالعمل الثوري بعيدا عن فكرة الخروج التاريخية التي تحكمها لغة المقدس. وقع المصريون، وخصوصا المتدينين منهم، في ورطة، فرغم أنهم كانوا ينشدون التغيير من خلال التكفير والهجرة أو من خلال آيديولوجيا الخروج، أسقط في أيديهم ونجحت ثورتهم من دون خروج. وبدلا من استكمال الفكرة الجديدة القائلة بالتغيير من الداخل ما لبث المصريون أن دخلوا في سجن اللغة وداروا حول أنفسهم، إذ بقي الخروج في الخلفية وبدا السجن اللغوي واضحا في محاولات كتابة دستور جديد للثورة. دستور يشتبك فيه الدنيوي بالمقدس لأن العقل المصري لم يبرأ بعد من حالة التشويش ومازال سجينا للسرد التاريخي ومازال محاصرا بسجن اللغة. لذا أيا كان الدستور المصري فلن يكون نقطة متقدمة عن الدساتير التي سبقته، لأنه لا يدري أي المثالين يريد أن يقتدي به: المثال الإبراهيمي وجنات عدن كغاية، أم المثال الموسوي وأرض كنعان وأرض الميعاد كغاية بديلة. رغم أن الذهنية المصرية في الدنيوي والسياسي لا تقبل بفكرة أرض كنعان إلا أنها ملتبسة معها في الديني.

هذا الالتباس بين الدنيوي وبين المقدس في حالة نصر أكتوبر، المتمثل في هزيمة آيديولوجيا أمن البحر الأحمر الذي عبره المصريون، ولو عند أطرافه وبطريقة رمزية، من دون غرق على النقيض من الفعل الإعجازي لنبي الله موسى، الذي أدى إلى غرق جيش الفرعون. لا يستطيع المصري المعاصر أن يضع الحدثين إلى جوار بعضهما البعض، لأن في الفعل الدنيوي من وجهة نظره تشويشا على المقدس، لذا يفضل عدم الحديث عنهما في وقت واحد. فالمصري يرى في نصر أكتوبر نصرا عسكريا وحسب من دون غطاء آيديولوجي لهذا النصر، غطاء يتمثل في هز عقيدة الأمن الإسرائيلية المتمثلة في البحر كفاصل أمني بين اليهود وبين أرض الفرعون. هذا الالتباس هو الذي يجعل سيناء متجاهلة من قبل الجميع لأنهم قبلوا البحر كفاصل في المقدس، بينما أرض الدولة المصرية تتجاوز المقدس. فرق شاسع بين حدود مصر في المقدس وحدودها في الدنيوي، ومن هنا يأتي التباس الهوية والمكان في واحدة من أقدم الدول في العالم، لأنها ضحية التشويش وضحية سجن اللغة.

الحديث عن أكتوبر خارج سجن اللغة، والحديث عن الثورة خارج آيديولوجيا الخروج الموسوي كعمل ثوري، يعيدان تأهيل الحديث عن السياسة في مصر ويجعل أفق التغيير أكثر وضوحا. لا أرض كنعان ولا مثالية عدن هما الهدف من التغيير الدنيوي والانتصارات، وإنما تغيير الواقع المعيش عل الأرض ليس في أرض كنعان وإنما في أرض الفرعون ذاته. حتى هذه اللحظة وأنا أراقب المصريين وهم يدورون بين جدران سجن اللغة، أرى أن التغيير للأفضل ليس قريبا قبل فض الاشتباك بين الدنيوي والمقدس وقبل كسر جدران سجن اللغة.