وسام سعادة

دعك من كل الأسئلة quot;التقنيةquot; المتصلة بطريقة إجراء الاستفتاء في مصر، وموعده، والظروف الإدارية والأمنية وغير ذلك، على أهمية تلك الأسئلة. لا بأس من الالتفات قليلاً إلى هذه quot;النعمquot; التي أعطت نسبة نحو لمؤيدي الدستور في الجولة الاولى.

أوّل ما يقال فيها إن نسبة غير كافية لإسباغ الطابع الشرعي التأسيسي على الدستور. فهي نسبة تسقط عنه طابع quot;العقد الاجتماعي السياسيquot; بين المصريين، خصوصاً أنه في الأساس دستور دبّر بليل دامس.

في أقل تقدير، فإن نسبة من وزن quot;أكثرية الثلثينquot; هي ملزمة في هذه الحالات. هذا إن أراد واضع المسودة الدستورية أن يدّعي أنه يستطيع تسويقها كعقد اجتماعي سياسي صالح، حتى لو أنه دبّجها لوحده وبسرعة هوجاء وتعنّت مرضيّ.
بل إنه حتى لو نالت المسودة نسبة من وزن quot;أكثرية الثلثينquot; وكانت مكتوبة بهذا الشكل الفئوي الاستئثاري، الإملائي، المتحايل على منطق المشاركة الوطنية التأسيسية، فإن الدستور سيبقى مشوّهاً.

وما يزيد الطين بلّة أنّ الدستور كي يكون كذلك يفترض فيه أن يقدّم نفسه كرأس quot;الهرم القانونيquot;، فعلى أساس الرجوع إليه تجري مراقبة دستورية القوانين. لكن كيف يمكن توفيق ألفباء القانون الدستوري هذه وبين تهميش مرجعية الدستور في التشريع. فهذه أساساً نقطة الفصل بين جعل الشريعة الإسلامية مصدراً رئيسياً للتشريع (ما هو مناسب تماماً في أي بلد بأكثرية إسلامية كاسحة)، بما يتيح quot;زعامة الدستور على القوانين الوضعيةquot;، وبين جعلها، بموجب نص دستوري وليس بموجب نص من أصول الشريعة، المصدر الرئيسي للتشريع، بما يطيح بأساس هرمية القوانين، وبفكرة سيادة القانون، وبالتالي بفكرة السلام الأهلي.

في المقابل، لا يمكن القفز فوق رقم المؤيدين للدستور quot;المسلوقquot; في الاستفتاء المتسرّع. هذا رقم يدحض الزعم القائل إن الإسلاميين في مصر صاروا أقلية وأن شعبيتهم تراجعت بعد وصول محمد مرسي إلى السلطة.
وإذا أخذنا في الاعتبار أن ما من قبطي صوّت إلا ضد quot;الدستور الأخوانيquot; تصبح الأكثرية المعقودة للإسلاميين بين المسلمين المصريين أكبر بكثير، وإن تكن متفاوتة جداً بين منطقة وأخرى (أي دستور لمصر ترفضه عاصمتها؟)، بما يزيد البعد الجغرافي للصراع الأهلي اليومي في مصر اليوم.

وإذا انتبهنا إلى أن الوقت المعطى لقراءة المسودة المستفتى عليها كان أكثر من ضيّق، وأن نسبة الأمية مرتفعة، يصبح التصويت بـquot;نعمquot; هو تصويت شامل: هذه النسبة كان يمكنها أن تقترع بالحجم نفسه لأي نص يحيله التيار الديني الحاكم إليها، سواء كان نصاً أكثر تشدّداً أو أكثر مرونة من ناحية تحكيم الشريعة.

مثلما أن الدستور لا يولد بهذا الشكل المعطوب، وأنه بهذا المعنى ولد ميتاً، فإنه لا بدّ من رؤية الأكثرية التصويتية المرجحة لكفة الإسلاميين في مصر للمرة الثالثة على التوالي، بعد انتخابات مجلس الشعب والرئاسة.
لا ينفع القول quot;هؤلاء مغرّر بهمquot;، أو quot;أخذوا على غفلةquot;، أو quot;هم في غفلةquot;. لا، هؤلاء صحيح لا خبرة لديهم بالقانون الدستوري، وبالتالي استفتوا في ما لا شأن لهم به، خصوصاً عندما تحال المسودة إليهم بهذا الشكل غير الطبيعي، إلا أنهم يدركون تماماً أنهم يزكون التيار الإسلامي لحكم مصر، ويعتبرون أنّ القوى المقابلة لا تريد لهذا التيار أن يحكم مع أنه التيار الأكثري.

ليست هذه أكثرية ثابتة بالضرورة لسنوات وسنوات. لكنها إذا كانت عبّرت عن حالها في ثلاثة استحقاقات انتخابية فمعنى ذلك أنها ليست عرضية، وعابرة.
المشكلة ليست في أنها أكثرية. المشكلة أنها أكثرية محدّدة: أكثر بقليل من نصف المصريين. لا يمكنها إذاً أن تعطي للإسلاميين ما لا يتأمن إلا بالحد الأدنى من الإجماع، أقله الإجماع quot;إما على الآلية، وإما على النتيجةquot;، عند كتابة العقد الاجتماعي السياسي، الدستور، من حيث الآلية، أو عند إقراره، لجهة النتيجة.

وفي المقابل، من المشروع طرح السؤال: quot;ماذا كانت لتكتب المعارضة المصرية كدستور بديل؟quot;. هل كانت لتقرّ بالمساواة القانونية الكاملة بين المواطنين، هل كانت لتختار النظام الرئاسي أو البرلماني، هل كانت لتتجاوز هرطقة تحديد أكثرية أعضاء مجلس الشعب بـquot;العمال والفلاحينquot;، هل كانت لتبادر الى المصالحة الوطنية، بدلاً من مادة في الدستور إقصائية لكتلة جماهيرية من المصريين: الحزب الوطني المنحل. للتذكير لم يكن حزب مبارك حزباً فاشياً أو ستالينياً أو بعثياً لـquot;تطارد ساحراتهquot; بهذا الشكل العبثي، والذي سمح من جملة ما سمح، بتوسيع دائرة الإسلاميين، وبتضييق دائرة اللفيف المواجه لهم. إن عدم وضوح الطرح البديل لدى قادة المعارضة جعلهم يبدون quot;رابطة الراسبين في الانتخابات الرئاسيةquot;.. تلك التي حدثت قبل أشهر. هذه النظرة راجت في الخارج، والى حد ما في واشنطن. ليس في الأمر quot;مؤامرة.

أمر آخر لا بدّ من تأكيده حيال الوضع المصريّ: الأخوان المسلمون ليسوا ديموقراطيين، لكنهم ليسوا فاشيستيين. quot;فشستتةquot; الأخوان التي يعمد اليها quot;الاستئصاليّون البشاريونquot; ينبغي أن تكون مرفوضة. ليس عند الأخوان عبادة زعيم، ولا تقديس استثنائياً للعنف، ولا رفضاً منهجياً للحياة البرلمانية، ولمبدأ الفصل بين السلطات. تاريخياً، كل نزعة فاشية تنمو في أحشاء الأخوان كانت تحتاج للانسلاخ أو الانشقاق عن الجماعة للتعبير عن نفسها. طبعاً، اليوم خيرت الشاطر وتنظيمه الأمني في مصر حالة خاصة، وخطيرة، لا نعرف بعد إن كانت تستقيم مع هذا التحليل أو تمهّد لنسفه...