مطاع صفدي


ليس الربيع العربي نظرية، لن يكون موضوع نقاشٍ مسبق، ولن ينتظر أحداً كيما يفكك معانيه قبل أن يصير حقيقة واقعة.
لم يكن أحدٌ يعرفه من قبل أن تنفجر أحداثه من تحت طحالب الواقع الفاسد، الجاثم وفق صدور شعوبنا حتى كأنما كان هو الأصل لكل ما هو قائم وكل ما عداه هوامش وأعراض عابرة.
هذا الحدث لن يأتي بجنان عدن بين يوم وليلة. بالأحرى إنه يُدخلنا في جحيم خطايانا كلها قبل أن يدلنا على طريق السلام والحرية. فإذا أردنا ترجمة هذا الكلام إلى أحوال التطورات الراهنة، اكتشفنا ما يمكن اعتباره قانون التناقض الأعظم بين ثورة الغالبية في الشعب وسلطة الاستبداد/الاستغلال.
فهو القانون الجامع بين مكونات الأطياف السياسية والعقائدية لقوى الثورة وأعدائها في وقت واحد، لكنه هو المانع في الوقت نفسه من تحكم بعضها المتطرف في البقية الساحقة من كينونة المجتمع وعوامله الظاهرة والخافية.
قد لا يُلغي هذا القانون الفروقات واللونيات، بل لعله يبرزها بأكثر مما هي عليه من التجذّر وقوة التأثير، قد يفرض أولويته ويبرمج تطورات الكفاح ما قبل الهدف المأمول ممتداً بفعاليته إلى ما بعد مختلف أحوال هذا الهدف.
فانتفاضة مصر على الفرعون، حققتها طليعة شبابية غير حزبية ولا مذهبية، مما جعل الآخرين ـ وأبرزهم الإخوان المسلمون ـ يضطرون إلى اللحاق بركاب الشبيبة.
كان لهم مشروعهم الخاص القديم، كانوا مستعدين لاستغلال ظروف هذه التطورات، ساعين إلى الاستيلاء الاحتكاري ليس على الثورة فحسب، بل على الدولة، ومن ثمة سيشرعون في إعادة سلطة الاستبداد عينها، وإن كانت هذه المرة مقنّعة بأسماء المقدس ومفرداته.
ما يعنيه الاستيلاء على الدولة هو مجرد عملية إعادة إنتاج للنظام الأُحادي الذي ابْتُلي به القرن العشرون، ليس عربياً فحسب، بل شبه عالمي كذلك.يتناسى الإخوان أن النظام الأُحادي قد استنفد كل قواه واحتيالاته على النُخب والشعوب معاً، صار بضاعة متحفيّة.
ولعل أوروبا التي اكتوت بنماذجه الكبرى كانت هي كذلك المسؤولة عن تدمير معابده وأصنامه كلها، ولكن يبدو أن عالمنا العربي والإسلامي لا يزال يعاني من وباء المرض التسلّطي الأعمى الذي استولى كذلك على مشاريع نهضتنا الاستقلالية لأكثر من ستة عقودٍ متواصلة.فما كان لهذا الجيل الأخير من شبابنا أن يلتحق بركاب الربيع إلا بسبب استنفاد مجتمعاتنا لتجارب السلطات الاحتكارية السابقة واللاحقة، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو ثقافية أو إعلامية..إلخ.
تدخل هذه المجتمعات دفعة واحدة في تجارب التطهر من أدران هذه المراحل البائسة التي كادت أن تزرع اليأس النهائي من إمكان استعادة الأمة لأبسط معاني وجودها الإنساني المشروع.
إن رد الفعل الأول الذي تُواجه به هذه الرِدة البائسة، قد تصبّ نتائجها في فرض حقيقة رائعة وهي أنه لم يعد للتسلّط السياسي أية قدرة على التقنع بأيديولوجية ما.فالتجربة المرة الراهنة سوف تكشف من جديد ما يعنيه هذا التسلّط بكل خفاياه، إذ يحدث لأول مرة في جو من حرية التعبير الذي يسود الآن مصر وبعض أقطار الثورة.
هذه التجربة قد تضع حداً لكل عمليات استغلال الدين، فتنقذه من كل الاستثمارات السياسوية من جهة، ومن جهة أخرى لا تترك سراً لنزعات التسلّط إلا وتكشفه، فيتم تعريتها ـ النزاعات ـ أمام أعظم رأي عام هو في طريقه إلى الانفتاح الشامل في مختلف أقطار العرب.
كأنما كان لا بدّ للمشروع الإخواني من أن يتورط في ارتكاب مفاعيل هذه التجربة، لا لكي تنكشف عوراته الخاصة فحسب، بل قد يتم التشهير بالنكسة الشاملة لمختلف أطيافها.هذه النكسة التي تُصاب بها النهضة العربية تحت اسم: تسلّط الإسلام السياسي على مقدراتها.
إنها الرِدَّة الأحدث التي ربما سيكون لها كذلك فضلٌ بنيوي على طبيعة الحِراك الثوري، إذ سوف تنتقل الثورة من أبراج النُخب إلى مختلف الخلايا المجتمعية، سوف يغدو الحراك مزدوجاً: عمودياً وأفقياً في آن، هذا يعني أن عصر الاستنقاع الشعبوي هو في طريقه إلى الزوال، وأن السياسة لن تظل فعلاً نخبوياً أو فئوياً، وأن (الناس) هم جميعاً منخرطون حقاً في الثورة، في الدفاع عنها، وفي الإصرار على كشف أعدائها كيفما كانوا وتحت أية تسميات تصرفوا.
فليست هي أجواء النكسات المتناسلة من بعضها في بعض المجتمعات الثائرة، هي التي سيكون عليها أن تُبعد هؤلاء (الناس) عن أجواء الثورة والثائرين كما يأمل المتربصون بالمصير العربي داخلياً وخارجياً، فمن خصائص هذا الربيع أن معاركه الجذرية ستنبش أعمق السلبيات وأخطرها.
وفي الوقت عينه، فإنه يراهن على قدرته في تظهير قوى الوعي الجماهيري، وإشراكها يومياً في تمزيق شبكيات الغش والاحتيال والنفاق الأدلجي، وإن كان يمارسها هذا العدد الهائل من المخدوعين، الموصوفين بأنصاف الثوار وأنصاف المدعين لأهدافها.
إنها نكسات فعالة، لكنها قد تفجر ما هو أقوى منها لدى مقاوميها، لكي تتبدّد مفاعيلها، ومصر اليوم هي المسرح المركزي لكل هذه التراجيديا الإغريقية والإنسانية، فلا شك أن هؤلاء ـ من أنصاف الثوار ـ الذين عَبَروا بتاريخ تحولات النهضة، قد تمكنوا غالباً من تأجيل نوع هذه المعارك الجذرية التي كان على النهضة أن تثيرها في أعماق تحولاتها، وكانت ثقافة التنوير هي التي ينالها الشيء الكثير من التزوير الفكروي والممارسات السياسوية المضادة، بحيث تمَّ تعجيزُ النهضة عن إنتاج عصرها التنويري بحقيقته، بوقائعه الاجتماعية والمادية وليس بأفكاره فحسب، بل بالمتغيرات المفصلية المعبرة عن إعادة تكوين العقلية العربية الضامنة الوحيدة لسلامة التقدم النهضوي وليس السياسي وحده.فقد صحَّ القول ان النهضة ظلّت من دون عقل تنويري عبر أهم مراحلها المصيرية، نقول بلغة مباشرة ان العرب لم يستطيعوا، أو أنهم امتنعوا أو مُنعوا من أن يفكروا في أنفسهم ومصيرهم والعالم من حولهم عبر منعطفات تاريخهم القومي وتمفصله مع التاريخ العالمي الإنساني.كانوا أكثرهم أشبه بحرّاس متحف أهلي عتيق، لا يزوره أحد سواهم.
لعل شعب الربيع العربي أخيراً يطلق جوهر الثورة الكينونية تحت اسمها وعنوانها الصريح وهو: عصر تنوير عربي حقيقي ومعاصر.
لن ننساق مع الرأي الشائع القائل: ان مجتمعاتنا العربية ليست مهيّأة بَعْدُ للفصل بين معتقداتها وسياسات دولها الحاكمة، ذلك أن المشكلة هي أبعد من كل تغيير يطرأ على صيغة السلطات العليا، من دون أن تُصيب طبقات أعمق من هذه السلطات الأخرى المتفشية في جوف التكوين الثقافي والإنساني لهذه المجتمعات.ولذلك قد تبدو الثورات أنها ستظل مهددة بأمراض هذا القديم الذي تتمرد عليه.
لكن الربيع العربي يَعِدُ بذلك النوع المختلف والمتجاوز لأنماط الثورات العابرة والسطحية، فهو حقاً أشبه بالزلزال المنبعث من تحت قشرة الأرض التي يدوسها، قد يوصف بطبيعة كينونية، وليس بأعراضه الآنية.
هذا على الأقل ما توحي به بوادره الواعدة والمتميزة بطابعها الكلّي، وإيقاعها الجذري، واستهدافها كلية الكيان المجتمعي القائم.
فليس هو مجرد انتفاضة على سلطة ما، بل هو طامحٌ للتصدي إلى أعمق أسباب عاهةِ التسلّط التي لم يُبتل بها جهازُ الحكم فحسب، لكنها وصلت بجراثيمها إلى مفاصل الهيكل العظمي لكياننا المجتمعي، فلم تكتف باستلاب حقوق الناس المباشرة.
فالبشر لا يعيشون فحسب من أجل أن يستجيبوا لغرائز البقاء الحيواني فقط، إنهم مسكونون فطرةً وتكويناً بإرادة التغيير لشروط حياتهم النسبية، هذا التطلع إلى الكمال، يفترض الحرية ضرورةً وجوديةً أولى لكل حِراك إنساني طامحٍ إلى تكوين حضاري ينسجم مع نوازع الجماعة الطبيعية إلى الحق الأعظم بالوجود الحر.
فـ 'التسلّط الإخواني' هو عَرَض واضح جداً لنزعة التعدي على هذا الحق الإنساني الأعظم للحق بالحرية،وإن معارك مجتمعنا المصري، والعربي معه، ضد هذا النوع من وباء التسلّط يبشر، بل يفتتح مرحلة انتقال الربيع من الصراع السياسي ضد الحكام المتسلطين إلى أشباههم من رموز المجتمع الأهلي.إنه استكمال للنضال السياسي الموّجه إلى القمة بالنضال الاجتماعي والثقافي ضد أعداء الحرية في الصفوف الدنيا من الهيكل المجتمعي.
الربيع العربي يدشن إذاً صفحة النُقلة التاريخية لثقافة التنوير من ساحة أفكار النُخب إلى كل ساحات التواجه اليومي ما بين كتل الشعب وأعدائهم المتجددين.يحق لنا أن نسمّي هذه اللحظة الفاصلة أنها ثورة التنوير وقد انطلقت، لم تعد حبيسة الأفكار والنظريات.
سوف تغدو حقيقةً طريقةُ معاشٍ للناس وسلوكهم الأخلاقي.
وهنا على النُخب الثقافية أن تعي هذا المفصل الكينوني، وأن تطرح على ذاتها سؤال: كيف لنا أن نحقق تَبْيِئَة الديمقراطية.
إن لم نزرع أضواء التنوير في أعمق ظلمات هذا التكوين الأهلوي، العريق بتجارب الحرية الكبرى وقتلها كذلك في المنعطفات السوداء من التاريخ العربي والإنساني.