مالك التريكي

مسألة تبدو محسومة في الظاهر: كذب الطغاة ولا يزالون يكذبون لأن الكذب ضروري لاستمرار الاستبداد. يكذب الطغاة وهم واعون بأنهم كاذبون. يتعاملون مع الكذب باعتباره أداة أساسية من أدوات الحكم. يكذبون 'لزوم الشغل'. مسألة تبدو محسومة في الظاهر. إذ لا يمكن لأي بشر عادي يسمع خطابات بشار الأسد منذ بدء الثورة الشعبية السورية أن يصدق أن الرجل يقول ما يقول وهو لا يعي أنه يكذب كذبا صاروخيا. ولا يمكن لمن كان لديه الصبر على سماع خطابات القذافي أو على الانتباه لتصريحاته أن يصدق أن الرجل كان مقتنعا في قرارة نفسه بأنه صادق في ما يقول.
أما مبارك فإن الكلام المكتوب، الذي يكاد يكون موزونا ومقفى، الذي كان يتلوه بتفخيم سخيف وبغنّة كاريكاتورية (بسبب إعجابه بصوته وأدائه و'حضوره')، فقد كان كلاما يستفز غريزة عدم التصديق عند السامعين استفزازا. ولعل أيسر الحالات في وضوح الوعي باقتراف الكذب عيانا بيانا هي حالة علي عبد الله صالح. فقد كان الرجل يقرن بين القول الباطل وبين النظرات الفاضحة لحقيقة ما يدور في ذهنه، حيث أنها كانت نظرات زائغة متهربة حينا، ونظرات فاحصة متفرسة في وجوه الشهود حينا آخر، تلتمس سبيلا علها تتبين مدى وقع صواريخ 'اللا ـ حقائق' عليهم.
مسألة تبدو محسومة في الظاهر: لا يمكن لهؤلاء أن يكذبوا كل كذب الدمار الشامل هذا دون أن يكونوا مدركين بأنهم لا يقولون صدقا. بل إن الكذب من أدب الطغاة (مثلما يقال 'أدب الملوك'). لكن بعض التأني يكفي لبداية الإحساس بأن المسألة ليست بهذه البداهة. ذلك أن القدرة على تبين ما إذا كان الطاغية يكذب عن قصد أم أنه يقول كلاما يعتقد أنه صادق (أي القدرة على تبين ما إذا كان كذب الطاغية واعيا أم غير واع)، بصرف النظر عن موقف السامعين، إنما تعني القدرة على فهم آليات تفكير الرجل بما يتيح النفاذ إلى دخيلته. وهذا أمر شديد الصعوبة، بل شبه مستحيل.
فهم التكريبة الذهنية والنفسية للقادة السياسيين عموما مبحث أساسي في التاريخ وفي تحليل النفس السياسي. وهو يتجاوز بالطبع مسألة مدى دقة القادة في تصريحاتهم أو مدى انطباق خطابهم على الواقع. ونظرا إلى أنه يجوز المجادلة بأن كثيرا مما يعيشه العرب من أحداث منذ بداية الثمانينيات يمكن حسبانه من التداعيات المباشرة لوصول صدام حسين إلى الحكم في العراق ومغامراته غير المحسوبة في الجوار (أحد هذه التداعيات أن بن لادن لم يقرر اتخاذ أمريكا -'رأس الأفعى'، حسب أدبيات القاعدة- عدوّا إلا في أعقاب غزو الكويت ورفض القيادة السعودية الاستجابة لطلب بن لادن بعدم الاستنجاد بالقوات الأمريكية ولعرضه بأن يقوم مع قدامى المجاهدين بإخراج قوات صدام بمثلما أخرجوا القوات السوفييتية من أفغانستان)، فقد كان من أوكد رغبات الباحثين المختصين التوصل إلى فهم آليات تفكير القائد العراقي (الذي كانت سلبياته خطيرة لكنها لم تكن تشمل الكذب على النطاق الملحمي الذي تخصص فيه غيره من الطغاة العرب).
غير أنه لم يتح بعض من هذا إلا قبل بضعة أشهر بمناسبة تمكين عدد من الباحثين من الاطلاع على عشرين وثيقة من وثائق أرشيف محاضر اجتماعات القيادة العراقية في عهد صدام، وذلك بالتزامن مع ندوة نظمها مركز وودرو ويلسون الدولي للباحثين في واشنطن حول الحرب العراقية الإيرانية من عام 1980 حتى 1988. وقد بدا من هذه الوثائق أن صدام كان قائدا ميالا للاعتقاد بوجود أعداء له في كل مكان، وأنه كان يبدي في كثير من الحالات فهما سطحيا للدبلوماسية خارج منطقتي الشرق والخليج. ولعل الأهم أنه كان يطمح بحق لتمكين العراق من بلوغ مكانة عظيمة -مكانة القوة الإقليمية الأولى بدون منازع- لكنه كثيرا ما كان يخطىء الحسابات على نحو كارثي مدمر.
المثال الثاني على محاولات النفاذ إلى ذهن الطاغية، رغم صعوبة ذلك أو استحالته، هو ما يتيحه التخيل -بل الإدراك- الأدبي والفني. ولهذا فقد كان من أفضل ما كتب في هذا المجال مقال للروائي المغربي الطاهر بن جلون نشرته لوموند أخيرا بعنوان 'رحلة في ذهن بشار'. مقال شيق يخيل للقارىء أن الراوي فيه هو بشار الأسد فعلا، خاصة عندما يقول: 'أتعرفون لماذا تزوجتني أسماء؟ للقيم التي أمثلها (...) إنها قيم مرتسمة على وجهي لا تخطئها العين'.