يوسف مكي

إذا جاز لنا أن نستعير من الأستاذ محمد حسنين هيكل، فإن انبثاق نظام دولي جديد يفترض وجود قوة اقتصادية وعسكرية غالبة، تملكها دولة واحدة، أو تحالف دول، في عصر بعينه . كما يفترض أيضاً قدرة هذه القوة على جعل إرادتها فاعلة أو مؤثرة، أو على الأقل غير قابلة للتجاهل، في كل قضية وكل بقعة من بقاع العالم الداخلة في تفاعلاته .

هنا يميز الأستاذ هيكل، بين أربعة مستويات تؤثر جميعها في صياغة قانون القوة الدولي . فهناك عصر عالمي جديد، ليس بالضرورة أن تضطلع قوة ما بالقيادة فيه . وهناك نظام دولي جديد، ينسحب عليه التعريف الذي قدمنا به هذا الحديث . وهناك ترتيبات عالمية جديدة يصوغها المنتصرون عند نهاية أي حرب كونية . وهناك ظواهر عالمية جديدة، لعل أفضل توصيف لها هي مرحلة الانتقال التي يمر بها عالم اليوم .

ما نخلص إليه من هذه المقدمة، أن شرط انبثاق نظام دولي جديد، هو قدرة أقطابه على التمدد خارج حدود بلدانهم، وخلق مناطق حيوية تعتبر جزءاً رئيسياً من عمقهم الاستراتيجي . لكن ذلك لا يعني أن هناك صورة نمطية واحدة لتشكل النظم الدولية، فذلك ما لا يتسق مع سنن الكون، وهو مناقض لمنطق التاريخ . إن التاريخ لا يتشكل خارج قانون الحركة، ولأن الأمر هو بالضرورة غير خاضع للثبات، فإن لكل مرحلة تاريخية بصمتها الخاصة بها .

على أن العنصر الناظم في العلاقات الدولية، يؤكد أن الانتقال من نظام دولي لآخر، محكوم باستمرار بتوازنات القوة . وهذه التوازنات تعبّر عن ذاتها في صيغة حروب يشنها الطرف الأقوى، ضد الطرف أو الأطراف الأضعف، ليحسم بشكل لا لبس فيه موقعه في خارطة الصراع الدولي .

هكذا تشكل خلال القرن المنصرم، نظامان دوليان، الأول مثل الاستعمار التقليدي، وكانت بريطانيا العظمى وفرنسا قطبيه الرئيسيين . وقد ترجم هذا النظام الدولي حضوره مجدداً بعد هزيمة ألمانيا وتركيا وخروج روسيا من الحرب . وكان العرب الأكثر تضرراً من الترتيبات الدولية التي فرضتها نتائج الحرب العالمية الأولى، حيث وقعت بلاد الشام والعراق ضحية الاتفاق البريطاني - الفرنسي على تقطيع أوصال المشرق العربي، في اتفاق حمل اسم سايكس - بيكو، ووعد بريطاني للصهاينة بإقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين . وقد استمر هذا النظام، حتى نهاية الحرب العالمية الثانية .

توجت نتائج الحرب العالمية الثانية الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق كأعظم قوتين عسكريتين على وجه الكرة الأرضية . لكن اكتشاف السلاح النووي، من قبل الأمريكيين، والتحاق السوفييت بهم في هذا الكشف بعد فترة قصيرة جداً، خلقا حقائق جديدة غيرت من طبيعة المواجهات العسكرية بين القوى العظمى . فمواجهات كهذه في ظل امتلاك هذه القوى للسلاح النووي والقنابل الذرية تعني فناء محتماً للبشرية . ومن هنا ساد منطق جديد وبسمات جديدة في الصراع .

السمة الأولى للصراع هي طبيعته الأيديولوجية، فهو صراع بين معسكرين: رأسمالي، يقوده الأمريكيون، يؤمن بالحرية الاقتصادية، وبفوضى السوق، وشيوعي، يضيق الخناق على الحرية، ويجعل الدولة مالكة لوسائل الإنتاج . وكان الصراع في جانب منه يجري على امتلاك العقول .

ولأن العلاقات بين الدول، تقوم بالأساس على صراع الإرادات، وليس على التعاون الدولي برزت محاولتان رئيسيتان، لترصين الصراع، وتعضيد السلم في العالم، الأولى تشكيل عصبة الأمم بعد الحرب الكونية الأولى، وتشكيل هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي بعد نهاية الحرب الكونية الثانية . وإعلان مواثيق تؤكد على ضمان السلم العالمي وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول المستقلة . لكن ذلك بقي دائماً حبراً على ورق . يدلل على ذلك ما شهدته كرتنا الأرضية من حروب دامية ذهب ضحيتها الملايين من البشر .

والحديث عن الحروب يجرنا إلى سمة أخرى في العلاقات الدولية ارتبطت بالنظام الدولي الذي تشكل بعد الحرب . هذه السمة ارتبطت بعدم قدرة أي من أقطاب المعسكرين على خوض معركة مباشرة ضد القطب الآخر . بمعنى، عدم إمكانية قيام تصادم عسكري مباشر بين السوفييت والأمريكان، حتى مع استمرار حالة التوتر في العلاقات بينهما .

ومن جهة أخرى، عمل الأمريكيون، في الخمسينات على تطويق السوفييت بقوس عسكري، يمتد من باكستان شرقاً إلى تركيا جنوباً، ويضم بالإضافة إلى باكستان، إيران الشاه والعراق الملكي وتركيا . كما تشكل حلف الأطلسي، الذي أسس السوفييت في مواجهته حلف وارسو، من الدولة السوفييتية ودول شرق أوروبا، الاشتراكية .

أكدت هذه التطورات، من جهة، طبيعة الصراع بين القوى العظمى ومن جهة أخرى، أوجدت تفاهماً ضمنياً بين الغرماء الأمريكيين والسوفييت أقر بوجود مناطق نفوذ للمعسكرين، يعتبر التعدي عليهما تجاوزاً للخطوط الحمر . حدثت هذه التفاهمات في يالطة بعد الانتصار في الحرب، لكن ترتيبات لاحقة أضيفت لها أثناء الحرب الباردة . وقد التزم الأمريكيون والسوفييت بتلك الترتيبات، ولم يتجاوزوا حدود الاتفاق الضمني بينهما .

لم يكن ذلك نهاية المطاف، فقد بقيت مناطق أخرى خارج الاتفاق استمر الصراع عليها بين القطبين المتنافسين . فالبلدان التابعة للاستعمار العربي التقليدي، والتي شهدت محاولات حثيثة للانعتاق من الفرنسيين والبريطانيين والإيطاليين والبرتغاليين والإسبان، بقيت خارج القسمة . وأصبح التنافس عليها من قبل المعسكرين حاداً وشرساً . ولما كان من المستحيل أن تتحقق مواجهة عسكرية مباشرة بين القطبين، دخل في القاموس السياسي والعسكري تعبير الحروب بالوكالة . فكانت هناك حرب في كوريا دعم فيها الأمريكيون الشطر الكوري الجنوبي، ودعم السوفييت الشطر الشمالي . وانتهت الأمور بتقسيم البلد إلى شطرين، شطر في الجنوب تبنى النهج الرأسمالي، وشطر في الشمال تبنى النهج الشيوعي، ولازالت الأوضاع على حالها حتى يومنا هذا رغم مرور قرابة ستة عقود على هذا الانشطار .

ذلك مدخل رأيناه ضرورياً لمناقشة الوضع العالمي الراهن، وملامح تبلور نظام دولي جديد وتأثيرات ذلك على المستقبل العربي، وذلك ما سيكون موضوعنا القادم بإذن الله تعالى .