كتب: Bruce Riedel

لا يتذكر جميع الأميركيين الحرب غير المعلنة التي خاضتها الولايات المتحدة خلال الثمانينيات، ولا الدروس المستخلصة منها، حيث خاض الأميركيون حروباً أخرى كثيرة (مرتين في العراق، وفي أفغانستان وليبيا) لدرجة تسهِّل نسيان تلك الحروب المختلفة.
بينما تخوض الولايات المتحدة وإيران ما يمكن اعتباره آخر فرصة للتفاوض قبل شن الحرب على برنامج طهران النووي، من المفيد أن نتذكر أن الولايات المتحدة سبق أن خاضت حرباً مع الجمهورية الإسلامية.
في أواخر الثمانينيات، تدخل الرئيس رونالد ريغان في الحرب الإيرانية- العراقية، واصطف مع صدام حسين لتغيير مسار الصراع وتحقيق فوز عراقي، فشاركت الولايات المتحدة في حرب بحرية وجوية دموية (حتى لو كانت غير معلنة) ضد إيران، بينما خاض العراق حرباً برية ضارية، لذا لا بد من مراجعة الدروس المستخلصة من أول حرب أميركية مع إيران قبل شن حرب ثانية.
كانت الحرب بين إيران والعراق مدمِّرة، بل كانت واحدة من أكبر وأطول الحروب التقليدية بين الدول منذ الصراع الكوري في عام 1953، فقُتل خلالها نصف مليون شخص وجُرح مليون شخص آخر على الأرجح، وفاقت الكلفة الاقتصادية حدود التريليون دولار، لكن خطوط المعركة بقيت في نهاية الصراع كما كانت عليه في بدايته، وكانت هذه المعركة بمنزلة الحرب الوحيدة في التاريخ الحديث التي استُعملت فيها الأسلحة الكيماوية على نطاق واسع.
أدى الصراع بين عامي 1980 و1988 إلى كوارث أخرى، بما في ذلك الغزو العراقي للكويت عام 1990 والغزو الأميركي للعراق عام 2003، لكن ربما لم يكن الصراع المحلي الدموي في العراق غداة تلك الأحداث النتيجة النهائية لهذه المسيرة الجنونية، فقد زُرعت بذور المأساة بين الأجيال المختلفة خلال الحرب بين إيران والعراق، ولا شك أننا سنواجه تداعيات تلك الحقبة طوال عقود أو أكثر.
وأول درس يجب أن نتعلمه من الماضي هو توقع إلقاء اللوم على الولايات المتحدة في جميع الأخطاء المرتكبة، إذ اقتنع العراقيون والإيرانيون بأن الولايات المتحدة كانت تتلاعب بهم خلال تلك الحرب، وتكمن المفارقة في واقع أن الولايات المتحدة حاولت بكل سذاجة التواصل مع المقاتلين من الجانبين سراً، وعرضت على كل فريق منهما شراكة استراتيجية.
كذلك، اقتنع العراقيون بأن الولايات المتحدة كانت تتلاعب بالفريقين بعد السياسة الكارثية المبنية على تبادل الأسلحة مقابل الرهائن في منتصف الثمانينيات، حين باعت الولايات المتحدة الأسلحة إلى إيران واستعملت تلك المبالغ لتمويل العصابات المعادية للشيوعية في نيكاراغوا، ونتيجةً لذلك، اعتبر النظام العراقي ومعظم المواطنين العراقيين بعد انتهاء الحرب أن الولايات المتحدة تطرح تهديداً عليهم رغم الدعم الكبير الذي قدمه الأميركيون خلال تلك الحرب التي شملت تقاسم المعلومات الاستخبارية، وتوفير الغطاء الدبلوماسي الفاعل، وتجاهل معظم الحلفاء العرب الذين أقرضوا بغداد عشرات مليارات الدولارات بهدف متابعة جهود الحرب في العراق.
في المقابل، اعتبر الإيرانيون أن تلك الحرب فُرضت عليهم لأنهم يظنون أن الولايات المتحدة أشعلت فتيل الحرب، ووجهت الرأي العام العالمي إلى دعم العراق، رداً على قرار إيران باحتجاز رهائن من الدبلوماسيين الأميركيين عام 1979. ويذكر الإيرانيون أن الأمم المتحدة امتنعت عن إدانة العراق لأنه بدأ الحرب (حتى أنها لم تناقش تلك الحرب بعد أسابيع من انطلاقها)، ثم لامت الأمم المتحدة العراق باعتباره الطرف المعتدي بعد سنوات عدة كجزءٍ من اتفاق لتحرير الرهائن الأميركيين الذين احتُجزوا من جانب إرهابيين داعمين لإيران في لبنان.
صحيح أن تلك الحرب ترافقت مع عواقب مأساوية بالنسبة إلى إيران، ولكنها مكنت النظام من تفعيل الثورة الإسلامية عام 1979، من خلال تصوير الصراع على أنه نسخة من معركة ldquo;داود وجالوتrdquo;، وكانت مدة الثورة قصيرة وبقيت كلفتها ضئيلة مقارنةً بغيرها، أما بالنسبة إلى جيل الإيرانيين الذين يقودون البلد اليوم (مثل الرئيس محمود أحمدي نجاد والقائد الأعلى علي خامنئي)، فكانت الحرب بين إيران والعراق حدثاً حاسماً ساهم في صقل رؤيتهم العالمية، ويمكن تفسير النزعة المعادية للولايات المتحدة والمخاوف العميقة من الغرب من خلال طريقة فهمهم لذلك الصراع، ولا عجب اليوم إذا أدت أي حرب جديدة إلى زيادة تطرف إيران وتعزيز تصميمها على اكتساب أسلحة نووية.
ويمكن استخلاص درس آخر من الحرب الأولى، بأن إيران لن تخاف بسهولة من الولايات المتحدة، إذ كانت إيران في أسوأ حالاتها في عام 1987، فقد دُمِّر عدد من مدنها مثل مركز تكرير النفط في عبدان، وكانت صادراتها النفطية ضئيلة، وكان اقتصادها متدهوراً، ومع ذلك، لم تتردد إيران في محاربة البحرية الأميركية في الخليج واستعمال الوسائل المختلفة للرد في لبنان وأماكن أخرى، حتى عندما أغرقت البحرية الأميركية معظم السفن الإيرانية، تابع الإيرانيون القتال واصطفوا وراء آية الله الخميني الذي كان زعيم البلد حينئذ.
كذلك، خاضت إيران حرباً ذكية فتجنبت تصعيد الوضع بشكل سريع وخطير، واعتبر رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية، الجنرال مارتن ديمبسي، أن السلوك الإيراني منطقي وليس انتحارياً، فلن تتخذ إيران أي خطوات تهدد صمود النظام، بل إنها ستسعى إلى استغلال نقاط ضعف الأميركيين في أفغانستان والبحرين ونقاط ضعف إسرائيل في لبنان ونقاط ضعف السعوديين في اليمن.
لا بد من استخلاص درس مهم آخر من الحرب الإيرانية- العراقية، وهو أن إنهاء الصراع أصعب من إطلاقه، ففي عام 1988، لم توافق إيران على وقف إطلاق النار، إلا بعد أن ألحق بها العراق هزيمة كارثية ميدانياً، وحين هدد صدام بإطلاق رؤوس حربية كيماوية على المدن الإيرانية، فظن الإيرانيون أنهم سيواجهون حدثاً مشابهاً لكارثة هيروشيما إذا لم يوافقوا على الهدنة، وقد غادر الكثيرون طهران خوفاً من الاعتداء الكيماوي. قارن الخميني انتهاء الحرب بشرب السم. صحيح أن الحروب لا تتشابه، لكن الأحداث التاريخية تشير إلى أن إيران لن تتراجع بسهولة، ولا شك أن إطلاق بضع ضربات جوية لن يكون كافياً.
أخيراً، يجب أن نحذر من تطبيق نصائح أقرب الحلفاء أيضاً، فخلال الثمانينيات، ضغطت إسرائيل على واشنطن مراراً وتكراراً كي تعرض المساعدة على إيران. كان القادة والجنرالات والجواسيس الإسرائيليون مهووسين بالتهديد العراقي حينئذ كما يحصل الآن مع إيران، كما أنهم كانوا يتوقون إلى إعادة ترميم العلاقة الوثيقة التي ربطتهم بالشاه خلال الستينيات والسبعينيات.
وكانت إسرائيل المُصدّر الوحيد لقطع غيار الطائرات الأميركية الصنع في القوة الجوية الإيرانية طوال فترة الحرب. ضغط القادة الإسرائيليون، مثل إسحاق رابين وشيمون بيريز، على واشنطن وكانت قضية ldquo;إيران كونتراrdquo; فكرتهم على الأرجح. طُلب من الدبلوماسيين والجواسيس الأميركيين في الخارج أن يتغاضوا عن صفقات الأسلحة الإسرائيلية مع طهران، مع أن السياسة الأميركية الرسمية كانت تقضي بإقفال جميع الممرات التي يمكن أن يحصل منها الإيرانيون على الأسلحة أو أي مواد أخرى، يحتاجون إليها في حربهم.
لا يتذكر جميع الأميركيين الحرب غير المعلنة التي خاضتها الولايات المتحدة خلال الثمانينيات ولا الدروس المستخلصة منها، إذ خاض الأميركيون حروباً أخرى كثيرة (مرتين في العراق، وفي أفغانستان وليبيا) لدرجة أن نسيان تلك الحروب المختلفة أصبح سهلاً. في المقابل، لم ينسَ أي إيراني تلك الحرب!
* شارك في الكتاب المرتقب ldquo;التحول إلى أعداء: العلاقات الأميركية- الإيرانية والحرب بين إيران والعراق، 1979-1988Prime; (Becoming Enemies: U.S.-Iran Relations and the Iran-Iraq War, 1979-1988). ريدل هو مسؤول بارز في مركز سابان التابع لمعهد بروكينغز. كان مسؤولاً في وكالة الاستخبارات المركزية وعمل في الشرق الأوسط خلال الثمانينيات.