مأمون كيوان
دعا رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس (أبو مازن) مجدداً المصريين والعرب والمسلمين إلى زيارة القدس الشريف، عاصمة الدولة الفلسطينية، قائلاً: ldquo;لا تلتفتوا إلى الفتوى التي حرمت زيارتها ولا تدخلوا الدين في السياسة . ولا يجوز تحريم زيارة القدس لأنه لا تحريم من دون نص، ولا يوجد نص في القرآن أو السنة لتحريم تلك الحالة . وإن الرسول صلى الله عليه وسلم زار الكعبة المشرفة وهي مملوءة بالأصنام وتحت سيطرة المشركين، كما أن المسلمين كانوا يزورون القدس وهي تحت الحكم الصليبي قبل أن يحررها صلاح الدين الأيوبي، وكذلك استمرت زيارة المسلمين للقدس حتى أثناء الاحتلال البريطاني لفلسطينrdquo; . وكان عباس قد أطلق الدعوة نفسها في مؤتمر عقد في العاصمة القطرية الدوحة قبل شهور قليلة حول القدس، وأعاد طرحها في القمة العربية في بغداد مؤخراً .
والمبررات التي تشكل أسس الدعوة تبدو هشة جداً إلى الحد الذي لا يمكن لصاحب الدعوة نفسه زيارتها بمحض إرادته . وهنا لا ننسى أن رئيس السلطة عقد جولة مفاوضات أو أكثر مع قادة الكيان الصهيوني في ما يسميه الصهاينة ldquo;القدس الغربيةrdquo;، أي أنه زار القدس على طريقة الرئيس المصري أنور السادات . وإحجام العرب والمسلمين عن زيارة القدس المحتلة ليست نتاجاً لفتوى تحرم زيارة مدينة محتلة، بل هي نتاج رؤية سياسية وصراع مفتوح . وليس أمراً ضرورياً أو مطلوباً القيام بزيارة سياحية للقدس، بل المطلوب تحرير القدس وقبل أي شيء دعم صمود المقدسيين وعموم الفلسطينيين داخل ما يسمى ldquo;الخط الأخضرrdquo; وخارجه وخارج فلسطين أيضاً .
وتعيد هذه الدعوة طرح إشكالية تسييس الدين عند العرب واليهود، واكتشاف المكتشف من أوجه تشابه كثيرة تجمع بين حركات اليهودية الدينية المتزمتة أو المتسيسة وحركات الإسلام الجهادي والسياسي المتمثلة في: التزمت المتشدد في تفسير الدين، رفض العصر، كراهية الآخر، العداء للعالم، العزلة عن المجتمع، التميز في الملبس والهيئة، كإطلاق اللحى غير المشذبة، الميل النفسي للون الأسود، التدخل الفظ في الحياة الشخصية والاجتماعية، العداء للمرأة، محاولة تقويض حرية التعبير والثقافة، اللجوء المستمر إلى العنف الجماعي .
إن الأمر الجوهري والمهم لا يكمن في وضع الدين في منزلة القوة المحركة للصراعات العالمية والاقليمية، فالحروب الدينية، إن صحت التسمية، التي عرفتها البشرية انتهت منذ قرون عدة . والحربان الكونيتان شارك فيهما أتباع جميع الديانات طوعاً أو قسراً لغايات سياسية واقتصادية .
وبالنسبة للصراع في الشرق الأوسط وعليه المعروف باسم الصراع العربي-الصهيوني، ينبغي القول إنه ليس صراعاً بين اليهود والمسلمين، فالمجتمعات العربية-الإسلامية لم تنتج المسألة اليهودية التي هي مسألة أوروبية المنشأ وظهرت نتيجة للتغيرات التي تعرض لها الدور الاقتصادي الذي كان يلعبه اليهود لمصلحة ملوك أوروبا .
كما أن الحركة الصهيونية كانت حركة ldquo;صوفيةrdquo; يهودية، أو حركة دينية هامشية لم تتحول إلى حركة فاعلة إلا بعد تحولها إلى حركة سياسية عصرانية اختلقت حلاً سياسياً للمسألة اليهودية، هو الحل المتمثل بمشروع استعماري-استيطاني تعددت أماكن تجسيده، قبل أن يستقر الرأي على فلسطين لأسباب استراتيجية وسياسية واقتصادية . وفي عملية تجسيد المشروع الصهيوني في فلسطين، تم عقد شراكة غير متكافئة بين المركز الإمبريالي الذي مثلته في البداية بريطانيا ولاحقا الولايات المتحدة الأمريكية، وهو الشريك الكبير، وقيادة المنظمة الصهيونية العالمية التي حصلت على تصريح بلفور الشهير .
وكان للمشروع الصهيوني ولا يزال، وهو في الأساس مشروع إمبريالي وليس مشروعاً يهودياً خالصا شقان: أولهما، امبريالي يتعلق بالسيطرة على منطقة استراتيجية مهمة على مسرح العلاقات والصراعات الدولية من جهة، ومن جهة أخرى لاستغلال ثروات هذه المنطقة وفي مقدمها النفط .
أما الشق الثاني، فهو الشق اليهودي بالمعنى القومي لا الديني، نظراً لأن الحركة الصهيونية اعتبرت اليهود شعباً وقومية يجب أن يقيموا دولة قومية تشكل البلد الأم ليهود العالم . ولإقامة هذا الكيان السياسي، كان لا بد من استخدم رايات ورموز دينية لحشد المادة البشرية لتنفيذ المشروع الصهيوني عبر ثلاث ركائز هي التالية:
1- تهجير يهود العالم إلى فلسطين الذين لم ينتشروا في العالم وفق عملية ترانسفير/ طرد قسري باستثناء الذين طردهم نبوخذ نصر إلى بلاد فارس .
2- الاستيطان الإجلائي القائم على إحلال المستوطنين اليهود في أرض ليست أرضهم وطرد أصحاب الأرض الأصليين . ونُفذ جزء مهم من العملية الاستيطانية بشكل تراكمي في معظم أراضي فلسطين التي قامت عليها ldquo;إسرائيلrdquo; عام ،1948 والأراضي التي زعم ldquo;الإسرائيليونrdquo; أنهم ldquo;حرروهاrdquo; في حرب عام1967 في إشارة إلى القدس والضفة الغربية وقطاع غزة .
3- العلاقة الخاصة مع المركز الإمبريالي - الولايات المتحدة بصفة رئيسة، كونها صاحبة المصلحة الرئيسة من وجود ldquo;إسرائيلrdquo; في منطقة استراتيجية كونها حاملة طائرات ثابتة، كلفتها أقل من مردودها .
وهذا الشريك/ الولايات المتحدة، هو صاحب الكلمة الفصل في القضايا الاستراتيجية ذات الصلة المباشرة بالمصالح الحيوية الأمريكية في الشرق الأوسط . ولذلك كان الانسحاب ldquo;الإسرائيليrdquo; من سيناء وتفكيك المستوطنات التي أقيمت فيها، تلبية للمصلحة الأمريكية المتمثلة في إخراج مصر من الصراع وتقليص وتهميش دورها الإقليمي . وفي حرب الخليج الثانية 1991 وحرب العراق 2003 أرغمت واشنطن حليفتها ldquo;إسرائيلrdquo; على التزام سياسة ضبط النفس .
ويبدو أن دعوة الرئيس عباس العرب المسلمين لزيارة القدس حققت هدفها الرئيس غير المُعلن، حيث أثارت ردود فعل وجدلاً بين علماء الأزهر . فقد عدّها عضو مجمع البحوث الاسلامية بالأزهر د . عبد المعطي بيومي ldquo;تجاهلاً للواقع الإسلامي والواقع العربي . وهذا يتنافي مع أي فتوى تجيز هذه الزيارة، لأن الواقع أن بيت المقدس تحت سيطرة الاحتلال ldquo;الإسرائيليrdquo; . وكل زائر لابد أن يدمغ جواز سفره بخاتم الاحتلال الصهيوني اللعين . وكيف يقبل مسلم على نفسه أن يدمغ جواز سفره بهذا الخاتم المشؤوم الذي يعني اعتراف صاحبه بالخاتم الصهيوني . ومساندة الفلسطنيين ليست بزيارة القدس ولكن بأن ترسل لهم الأموال وتفتح لهم المعابر وأن نقف وقفة تجبر العدو ldquo;الإسرائيليrdquo; على أن يكسر حصاره عليهم، لا أن نذهب إلى القدس معترفين بالاحتلال وحصار الفلسطنيينrdquo; . بينما رحب رئيس لجنة الفتوى بالأزهر سابقاً الشيخ عبد الحميد الأطرش الذي قبل دعوة الرئيس الفلسطيني بزيارة بيت المقدس لأنها ldquo;ليست تطبيعاً مع ldquo;إسرائيلrdquo; . . . . وأنا شخصياً أتمنى من قرارة نفسي أن أزور بيت المقدس ولو لساعات يسيرة، لأنه حلم بالنسبة لكل مسلم وكل عربي غيور على دينهrdquo; .
وتجدر الإشارة إلى أن رئيس السلطة الفلسطينية صاحب دعوات فكرية أو هرطقات سياسية مثيرة للجدل منها: الدعوة إلى إعادة يهود البلاد العربية إلى أوطانهم الأصلية؛ والدعوة إلى الحوار مع القوى التقدمية اليهودية؛ والدعوة إلى ضرورة التمييز بين صهيونية تقدمية وأخرى رجعية، أدت غالبيتها إلى نكبات سياسية .
إجمالاً تتمثل مستهدفات التطبيع عموما والتطبيع الثقافي على وجه الخصوص، في ثلاثة مستهدفات رئيسة هي: مواجهة العروبة والقومية العربية، وموجهة الإسلام والفكر الجهادي، ومواجهة ثقافة التحرر الوطني . وتهدف هذه المواجهات إلى زعزعة الهوية العربية، ونزع فكرة المقاومة، وخلق صورة زائفة لطبيعة الاحتلال ldquo;الإسرائيليrdquo; تكرس قبول الاستسلام للشروط ldquo;الإسرائيليةrdquo; .
التعليقات