توفيق المديني


بعد ثمانية أشهر من نهاية الصراع المسلح الذي أسهم في إسقاط نظام العقيد القذافي الديكتاتوري، توجه 2.8 مليون ناخب ليبي من أصل 6 ملايين عدد سكان ليبيا، يوم السبت 7يوليو الجاري، للاقتراع في 27 دائرة، لانتخاب 200 ممثل عنهم في المجلس التأسيسي الذي سيتولى تشكيل حكومة جديدة وتعيين لجنة لصياغة الدستور الجديد الذي سيُطرح لاحقاً في استفتاء.

وتعتبر هذه الانتخابات حدثاً استثنائيا، كونها جاءت بعد أكثر من أربعة عقود عاشتها ليبيا في ظل ديكتاتورية العقيد القذافي، ويزيد من صعوبة هذه الانتخابات، عدم عيش الشعب الليبي في ظل حياة ديمقراطية تمكنه من الانتقال سلميا إلى مرحلة سياسية جديدة، وتخوف العديد من المحللين العرب والغربيين من أحداث العنف القبليّة والعرقيّة التي شهدتها ليبيا خلال الفترة الأخيرة، في ظل تنامي موجات السخط ورفض العديد من الجماعات التخلي عن سلاحها، بسبب تزايد دعوات الانفصال في الشرق والجنوب الليبي، وتكاثر أحداث القتل والاختطاف ومحاولات تخريب العملية الانتخابية، فضلاً عن الاعتداءات على المراكز والموظفين، ووجود أكثر من 2501 مرشح منفرد و1206 آخرين مدرجين على لوائح الأحزاب السياسية، من كافة الاتجاهات ودون برامج انتخابية واضحة، أما النساء فكان لهن حصة بارزة في عملية الترشح حيث تقدمت 629 امرأة بطلبات، علماً بأن معظمهن شاركن على لوائح الأحزاب فيما لم تتخط نسبة laquo;المنفرداتraquo; أكثر من 3.4 في المئة إلى صناديق الاقتراع.

وقد شارك في هذه المعركة الانتخابية، ثلاث تشكيلات سياسية رئيسة من بين 142 تشارك في الانتخابات، وهي حزب laquo;العدالة والبناءraquo; المنبثق عن laquo;الإخوان المسلمينraquo;، الذي تأسس في 3 مارس الماضي، ويترأسه محمد صوان وهو سجين سياسي سابق في عهد القذافي.

وهناك حزب laquo;الوطنraquo;، وهو حزب سياسي إسلامي أسّسه الأمير السابق لـ laquo;الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلةraquo; عبدالحكيم بلحاج، وهو ورئيس المجلس العسكري في طرابلس. أما الثالث فهو ائتلاف الليبراليين الذي شكّله رئيس الوزراء السابق للمجلس الانتقالي محمود جبريل.

وقبل إجراء الانتخابات، حصل جدل كبير بشأن التوزيع الجغرافي لمقاعد المجلس التأسيسي، لاسيَّما أن أنصار الفيدرالية في شرق ليبيا نادوا بالحصول على مزيد من النواب، نظراً للمظالم التاريخية التي تعرضوا لها من استمرار إهمال الحكومة للمنطقة الشرقية وعدم استعدادها سواء لمنحها درجة أكبر من الاستقلال السياسي، أو تعزيز المخصصات المالية لمنطقة تحتوي على أربعة أخماس الموارد الطبيعية في البلاد.

وفي السياق عينه؛ يلوم أنصار الفيدرالية في المنطقة الشرقية الحكومة الليبية على إبرامها عقوداً بملايين الدولارات مع كتائب من الزنتان ومصراته، المركزين الرئيسيين للجماعات المسلحة في المنطقة الغربية.وكغيرهم من الليبيين في مناطق أخرى من البلاد، فإنهم لا يثقون بالمجلس الوطني الانتقالي، الذي عيَّن نفسه سلطة تشريعية انتقالية، ويتهمونه بالافتقار إلى الشفافية، على رغم أن رئيس المجلس مصطفى عبدالجليل يتحدر من تلك المنطقة، فإنهم ينتقدونه بشدة quot;لخيانته لبرقةquot; ndash; التعبير المحلي الذي يستعمل لوصف المنطقة الشرقية. باختصار، إنهم يشعرون فعلياً بالغبن اليوم كما كانوا يشعرون في ظل نظام القذافي (صحيفة الحياة 5يوليو 2012).

وفي ظل هذا الوضع المعقد، قرر المجلس الوطني الانتقالي توزيع المقاعد وفق اعتبارات سكانية، حيث سيعود 100 مقعد إلى الغرب و60 إلى الشرق و40 إلى الجنوب الصحراوي.

ومن أصل 2.8 مليون ناخب دعوا إلى انتخاب مرشحيهم، بلغت نسبة المشاركة في الانتخابات التي تشهدها ليبيا لأول مرة منذ العام 1964، 60 في المئة بحسب النتائج الأولية التي أعلنتها المفوضية الانتخابية مساء السبت الماضي. وفيما كانت التوقعات تشير إلى فوز الإسلاميين في هذه الانتخابات، على غرار ما حصل في بلدان الربيع العربي (تونس ومصر)، تحدث العديد من مراقبي الانتخابات في طرابلس وبنغازي عن فوز laquo;ساحقraquo; لليبراليين في عدة دوائر ومراكز اقتراع بنسب تتجاوز أحيانا 90 في المئة، مثل ما جرى في حي أبو سليم في العاصمة. وتستند استنتاجات القوتين المتنافستين، الليبرالية والإسلامية، إلى laquo;تقارير أوليةraquo; من مندوبيهم الذين يراقبون عمليات فرز الأصوات. وإذا تأكدت هذه النتائج فإن ليبيا ستختلف عن جارتيها تونس ومصر اللتين فاز فيهما الإسلاميون بالحكم. وتشمل هذه التقديرات الأولى نتائج المقاعد المخصصة للأحزاب السياسية المتنافسة، وعددها 80 مقعداً من أصل 200. وبالنسبة للمقاعد الـ120 المخصصة للمرشحين فردياً، يتوقع أن تنحو النتائج نفس المنحى، حيث إن معظم المرشحين مدعومون من أحزاب سياسية.

وإذا ما تأكد فوز الليبراليين في هذه الانتخابات، فإن المعركة المقبلة ستكون حول الدستور الذي سيقرره المجلس التأسيسي، الذي سينتخب في جلسته الأولى رئيساً له وسيكون لزاماً عليه تعيين رئيس للوزراء في غضون ثلاثين يوماً، ومن ثم يتعين عليه تشكيل لجنة لصياغة الدستور، وعرض مسودته خلال 120 يوماً، وإجراء استفتاء.

من وجهة نظر المحللين الغربيين، سيكون الاختبار الرئيسي للمجلس التأسيسي المقبل فيما إذا كان يستطيع تمرير الدستور. وسيتناول الجدل حول الأخير جميع القضايا الكبرى التي تلوح في الأفق الليبي، مثل ما هو دور الإسلام في الحياة السياسية وأي وظيفة سيؤديها الحكم الذاتي في ليبيا الجديدة. وهنا سيتعين على الدستور الجديد كذلك أن يصف بدقة تطبيق الشريعة الإسلامية والسلطات التي تتمتع بها الحكومة المركزية على الإدارات المحلية، وأيضاً نظام فرض الضرائب والخدمات البلدية والعديد من المواضيع المهمة الأخرى.

وكان المجلس الوطني الانتقالي الليبي أوصى قبل إجراء الانتخابات بأيام قليلة، laquo;المؤتمر التأسيسيraquo;، الذي سينتخب أعضاؤه الـ200، بأن تكون الشريعة الإسلامية laquo;المصدر الرئيسي للتشريعraquo; في ليبيا، مؤكداً أن هذا الأمر ليس قابلا للاستفتاء.

وقال المتحدث باسم المجلس الوطني الانتقالي صالح درهوب، في طرابلس: نذكر أن الشعب الليبي يتمسك بالإسلام عقيدة وتشريعا. إن المجلس يوصي (المجلس التأسيسي) أن تكون الشريعة المصدر الرئيسي للتشريع، وليست قابلة للاستفتاء. وكان رئيس المجلس الانتقالي الليبي مصطفى عبدالجليل قال: خلال إعلان تحرير ليبيا في 23 أكتوبر 2011 بعد ثلاثة أيام على مقتل العقيد معمر القذافي، إن الشريعة ستكون المصدر الرئيسي للتشريع في ليبيا.

بصرف النظر عن القوة السياسية الفائزة في الانتخابات الليبية فإن القوى السياسية الليبية (الليبرالية والإسلامية) مطالبة اليوم ببلورة مشروع مجتمعي حديث لبناء الدولة المدنية العصرية التي تقوم على أساس المواطنة الحقة، وباعتبارها الدولة الوطنية الديمقراطية القادرة على تجاوز الانقسامات القبلية، لاسيَّما أن في ليبيا ما يقارب نحو 120 قبيلة وفخذا. فالحكم الجديد سواء أكان تحت سيطرة الليبراليين أم في إطار حكم ائتلافي مع الإسلاميين، مطالب بإعلان شأن الهوية الوطنية الليبية الجامعة، المتجاوزة للهويات المحلية ما قبل الوطنية، لأن الهوية القبلية تتنافى مع روح العصر والهوية الوطنية الواحدة.

ومع سقوط نظام القذافي وبروز المظاهر المسلحة طفت على السطح الأمراض التي تتناقض مع روح الثورة الليبية، إذ عادت النزعات القبلية بصورة مقيتة أكثر من السابق، وعادت النزعات الانفصالية، لاسيَّما في الشرق الليبي الذي يتباهى سكانه بأنهم يمتلكون الثروة النفطية المنهوبة من قبل العاصمة طرابلس بوصفها مركز السلطة، ومثل هذه الظواهر الرجعية تشكل ردة حقيقية على الثورة، وتتنافى مع روح الإسلام وبناء الدولة الوطنية الحديثة، أي دولة المواطنين المتساوين في الحقوق والواجبات، لا دولة laquo;المحاصصةraquo; القبلية في الثروة، والوظائف والخدمات الحكومية.

إن الدعوة إلى تشكيل حكومة وطنية في ليبيا مشهود لها بالديمقراطية والنزاهة لإدارة البلاد ما بعد الثورة، تكون مهمتها الأساس العودة بالبلاد إلى الحياة الدستورية والمؤسساتية عن طريق دعوة الجمعية الوطنية تأسيسية بإقرار دستور ديمقراطي عصري، وإحداث التعديلات المناسبة حياله، وعرضه على الشعب الليبي في استفتاء عام