محمد كريشان
يوما بعد يوم يزداد ارتباك الحكومة التونسية وتصدع وحدتها وتتبدى محدوديتها وعجزها على إقناع قطاعات واسعة من الرأي العام الوطني وكسب ثقتها. آخر الحلقات كانت استقالة وزير المالية بعد أسابيع قليلة من استقالة وزير الإصلاح الإداري.
الأول ترك منصبه بعدما أطلق صيحة فزع عن سياسات الحكومة المالية وخضوعها لنوع من 'الزبائنية' المرهقة لميزانية دولة تعاني الأمرّين أصلا، والثاني تركها بعد ما تبين له، كما قال، عجزه عن إصلاح ما كان يفترض أنه مشرف على إصلاحه. هذا فضلا عن الرعونة والتخبط الذين تجليا بشكل مخجل في إعفاء محافظ البنك المركزي وتعيين آخر.
مع الأيام ازداد عدد المتشككين في هذه الحكومة والمعارضين لها فيما تراجع عدد المدافعين عنها بعد ما كثرت إخفاقاتها وتعددت عثراتها. وسط حرارة الصيف الملتهبة ينقطع الماء والكهرباء في بلد لا يتذكر أبناؤه الشباب حدوث ذلك من قبل ولا يعرفه كهوله إلا قبل عقود عديدة.
تزداد شوارع العاصمة وأحياؤها قذارة وكذلك باقي المدن مع أكوام الزبالة المتعفنة في كل مكان. ترتفع أسعار المعيشة اليومية ويرتفع عدد العاطلين عن العمل وتتأخر رواتب الكادحين المسحوقين كما حصل مؤخرا لعمال في مدينة سيدي بوزيد خرجوا غاضبين وهجموا على مقر 'حركة النهضة' الإسلامية وعبثوا بمحتوياته في رسالة شديدة الدلالة لمن يريد الاعتبار.
ومع ازدياد الحياة الاجتماعية والاقتصادية صعوبة يكاد يكون الإصلاح السياسي مجمدا رغم أن هذه الحكومة تعتبر نفسها تقريبا الممثل الشرعي الوحيد لقوى الثورة التي أسقطت بن علي ومن سواها لا يتعدى أن يكون من جيوب الثورة المضادة.
بالتوازي يتصاعد استياء النقابيين والمثقفين والفنانين والصحافيين والقضاة والمحامين والجامعيين من السياسات الحكومية، كما أن مواقع التواصل الاجتماعي الشبابية تكاد تجمع على معارضتها والاستهزاء بها كما أجمعت من قبل على معارضة الحكم السابق. كل ذلك والمجلس الوطني المنوط به إعداد دستور جديد للبلاد يتخبط في نقاشات هزيلة يقودها، في الغالب، أناس من الصعب تصور أن هؤلاء هم فعلا نخبة البلاد السياسية التي أفرزها الشعب التونسي في أول انتخابات حرة ونزيهة في تاريخه. لم يتبق سوى ثلاثة أشهر ليظهر إلى العلن هذا الدستور ولا أحد يعلم بالضبط عن أي شكل من أشكال الحكم سيرسو وما المكانة الحقيقية للحريات العامة والفردية فيه وما إذا سيعرض على الشعب لإقراره أم لا. وإذا كانت الانتخابات العامة المقبلة لانتخاب رئيس جديد للبلاد وبرلمان ستجري فعلا في أذار/ مارس من العام المقبل، كما أعلن ذلك المسؤولون، فإن لا شيء يدل إلى حد الآن على بداية الاستعداد الجاد لذلك وأبرزه حسم موضوع الهيئة المستقلة المشرفة على هذه الانتخابات.
أما الأخطر من كل ما سبق على الإطلاق فهو انزلاق البلاد تدريجيا نحو مجتمع متدين مغلق ومتشدد لا علاقة له بما عرف عن تونس تاريخيا من تعددية وتسامح واعتدال.
الأدهى أن جزءا لا بأس به من هذا التدين هو مصلحي متزلف بعضه قائم على أساس أن حركة النهضة هي الحاكمة الآن وقد تحكم لفترة أطول ولا بد من مسايرة هذا التمشي لقضاء المصالح تماما كما حصل في السابق مع الحزب الحاكم. لقد كان مخيفا مثلا ما أوردته جريدة 'الصباح' التونسية قبل أسابيع قليلة عن انتشار عشوائي لظاهرة روضات الأطفال التي يرتادها فتيات صغار جدا وهن محجبات ويتلقين فيها دروسا عن عذاب القبر وحد الحرابة!! هذا فضلا عن تنامي التيار السلفي العنيف وممارساته المخيفة وسط صمت السلطات إلا فيما ندر.
الخطأ القاتل الذي وقعت فيه تونس أن من انتخبهم الناس، لمرحلة انتقالية ليس أكثر، لصياغة شكل الدولة الديمقراطية التعددية المستقبلية، بالتوافق وبما يرضي تطلعات الناس نحو الحرية والكرامة، توهموا أن الناس انتخبتهم إلى الأبد وأعطتهم تفويضا مفتوحا لتشكيل البلد كله كما يحلو لهم. هم يقومون بذلك فعلا الآن بغرور جلي وحساسية مفرطة تجاه أي نقد يوجه إليهم. وعندما يضاف إلى كل ذلك عدم الكفاءة وانعدام التجربة وضيق الأفق تصبح الحصيلة كارثة على البلاد والعباد.
- آخر تحديث :
التعليقات