عبدالحق عزوزي

احتفل المغرب في الثلاثين من يوليو الماضي بالذكرى الثالثة عشرة لعيد العرش في ظرفية جهوية وعربية استثنائية، يجمع الخاص والعام على أنها تشكل مرحلة مفصلية في التاريخ السياسي المعاصر للمغرب، من حيث انخراطه في تجربة ديمقراطية رائدة من دون إراقة الدماء أو أن يهن العظم منا ولا quot;زنقة.. زنقةquot;. منذ سنة قلنا إن خطاب الملك في 9 من مارس 2011 جاء ليفاجئ حتى أقرب مستشاريه، لأنه خطاب ثوري فاق سقف مطالب حركة 20 فبراير، وأعطى للشعب حق اختيار الملكية التي يريدها عبر استفتاء شعبي، بعد تقديم اللجنة الخاصة بمراجعة الدستور تقريرها في يونيو 2011... وبالتأكيد فقد جاء دستور يوليو 2011 ليدخل البلد عهد ملكية ثانية في عالم عربي بعض أقطاره تعمه الفوضى والفتنة التي ليس لها من دون الله كاشفة. ثم أصبح نص الدستور بعد نشره في الجريدة الرسمية ليلة خطاب العرش في31 يوليو 2011 بقوة القانون سارياً وملزماً تطبيقه بالنسبة إلى كل المصالح والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية بالمملكة. وجاءت الانتخابات التشريعية ليعين الحزب الفائز وهو حزب العدالة والتنمية لتشكيل الحكومة مجاراة مع مقتضى الدستور الجديد الملزم.

مرت إذن سنة على هذا الدستور الجديد، ويمكن لكل متتبع حصيف أن يرى كيف أن السلم الاجتماعي وتثبيت الديمقراطية والمؤسسات قد استحكمت آلياتها في المغرب... وبالإمكان أن نعطي مقارنة بسيطة بين المغرب وبلد عربي آخر هو سوريا.
فقبل مدة كتب المفكر عثمان ميرغني مقالة عنوانها quot;من سوريا إلى المغرب... درسان للتأملquot;، والبلدان على الرغم من المسافات واختلاف الأنظمة والظروف فإننا نجد فيهما الكثير مما يوجب المقارنة مع مطالب التغيير وتداعيات الربيع العربي، وأستسمح القارئ الكريم في تلخيص ما جاء في المقالة لكي نرى سوياً ما يمكن أن يقع في البلدان بفضل ذكاء وبصيرة نظام الحكم أو بسبب غبائه وبطشه:

بينما كان الربيع في عنفوانه، توجه العاهل المغربي والرئيس السوري في بداية 2011 بخطابين مختلفين تماماً في اللهجة والمضمون؛ وطبعاً كانت النتائج مختلفة في النتائج ومصير الملايين من الناس الذين لا حول لهم ولا قوة. فالعاهل المغربي قرأ التطورات جيداً وتفهم حركات الاحتجاج التي ارتجت لها المنطقة من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق، وانبرى لاتخاذ قرارات جريئة وتغييرات كبيرة في مسيرة الإصلاح الداخلي التي كانت قد انطلقت في عهد والده الراحل وتواصلت معه... في الجانب المقابل، كان خطاب الرئيس السوري الأول بعد الثورة الذي ألقاه في مجلس الشعب في 29 مارس (2011) ملتبساً ومتوتراً، سخر فيه من الثورات فوصفها بالصرعة الجديدة، وصنف ما يحدث في سوريا (وإلى حد الساعة) على أنه مؤامرة وفتنة، داعياً إلى وأدها باعتبار ذلك laquo;واجباً وطنياً وأخلاقياً وشرعياًraquo;. وقتها بدا واضحاً كم هو كبير الفارق في النظرة للأحداث وكيفية المعالجة للمطالب والآمال الشعبية بين زعيمين شابين وصلا إلى الحكم في فترة متقاربة، وهو أيضاً ما أكدته التطورات اللاحقة في البلدين منذ بدايات العام الماضي وحتى اليوم.

شاءت الظروف أن يخاطب كل منهما شعبه بعد ثلاثة أشهر من الخطاب الأول لتظهر المفارقة الجذرية والبون الشاسع بين ذكاء أحدهما وبلاهة الآخر؛ فالعاهل المغربي خاطب شعبه ليعلن عن التغييرات الدستورية التي وضعتها اللجنة المكلفة بصياغة الدستور، وهو دستور متميز سميناه في حينه بدستور الجيل الرابع، وليدعوهم إلى الاستفتاء عليه تمهيداً للانتخابات التشريعية. وبعد ثلاثة أيام من الخطاب المغربي كان بشار الأسد يخاطب السوريين من جامعة دمشق، ومرة أخرى جاء خطابه مملوءاً بالوعد والوعيد quot;امتزج فيه الكلام عن الحوار الوطني والتعديلات الموعودة بالتهديدات للمحتجين المطالبين بالإصلاح والتغيير والذين وصفوا بالمخربين المشاركين في مؤامرة لزعزعة الاستقرار، حمل الخطاب وعوداً لكنه لم يقدم خريطة طريق واضحة لتنفيذ الإصلاحات الموعودة التي ظل السوريون يسمعونها على مدى سنوات طويلة منذ تسلم الأسد الحكم خلفاً لوالده، ولكنهم لم يروا منها شيئاً حقيقياً على أرض الواقع. بل إن حديث الأسد عن الحوار والإصلاح في ذلك الخطاب، ضاع في ثنايا فقرات أخرى أكدت رفض النظام لفهم رسالة الشارع ونيته في التصدي للانتفاضة الشعبية ومحاولة قمعها بالقوة العسكرية والبطش الأمنيquot;.

انظروا معي الفرق بين بلدين.. الأول سار بميثاقه التعاقدي بين النخبة السياسية في الحكم والأحزاب السياسية وأطياف المجتمع المدني إلى أقصى ما يمكن تصوره، والثاني سار بالسلطوية والإبادة والتقتيل والتنكيل والتهجير إلى ما يمكن وصفه ولا يمكن للتاريخ أن ينساه ولا للبشرية أن تسامحه.

المغرب اختصر كثيراً من الوقت وتجاوز المعاناة التي تمر منها دول حصلت على بداية الانتقال الديمقراطي، إما عن طريق دبابات أجنبية أو عن طريق ثورات شعبية؛ بشار أوصل بلده إلى الحضيض، وزمانه سيفنى طال الزمن أم قصر لأنه يستحيل أن يحكم بلداً من نكّل بشعبه وأذاقه سوء العذاب، فذلك مستحيل! ولكن النتيجة في النهاية: فتنة وتمزيق وتشريد وضياع للمؤسسات وفقدان للقشرة الحامية لها وللبلد وضرورة إعادة بناء البلد من جديد وغير ذلك.

ثم تصوروا معي لو أن بشار الأسد قام بما قام به العاهل المغربي بنية صادقة وحب للبلد (العاهل المغربي كان يخاطب شعبه بشعبي العزيز وبشار الأسد يتوعد شعبه -والشعب هو الذي يحمي الحاكم وليس العكس- بأبشع الكلمات والصور) وخلق ميثاقاً تعاقدياً مع جميع أبناء البلد وأوصل معارضيه إلى المجال السياسي العام وأذاقهم حلاوة ومرارة تسيير الشأن العام وتنازل عن جزء من اختصاصاته إلى ممثلين من أبناء جلدته، لو فعل بشار ذلك لبسط له بساط أحمر ولأنقذ نفسه وشعبه، ولله عاقبة الأمور.